تُظهر الشهادات من الأيام الأخيرة أنّ هناك ضغوط متزايدة داخل قطاع غزة على ضوء تجميد رواتب موظفي حماس وإعادة الإعمار المؤجلة بعد عملية “الجرف الصامد”. تُمسُك إسرائيل بالوضع من خلال صمّامات يمكنها تخفيف هذه الضغوط ومنع اندلاع جولة أخرى من العنف: وهي، بطبيعة الحال، التي تُستخدم اليوم بشكل أساسي في عبور البضائع إلى الداخل والخارج.
المعبر الوحيد الذي لا تتواجد فيه إسرائيل، فعليًّا على الأقل، هو معبر رفح. غاب المعبر الفلسطيني – المصري عن الخطاب الإسرائيلي، بشكل طبيعي، ولكنه مركز مهمّ لفهم ما يحدث في القطاع، وخصوصا بعد العملية المصرية في هدم أنفاق التهريب من غزة، وفي الأشهر الأخيرة، من أجل توسعة الأراضي التي تعزل القطاع عن مصر. يجلس منذ أسابيع طويلة متظاهرون في خيام احتجاج أمام المعبر، يتجمّعون في ميدان الجندي المجهول في مدينة غزة ويرفعون لافتات أمام وزارة الداخلية في المدينة. وقد أقيمت يوم الجمعة الأخير صلاة جمعة بحضور بضع مئات من المشاركين، أمام بوابات المعبر المغلقة، وتم بعدها إلقاء خطابات.
وقد عُرِف يوم السبت الماضي أنّه سيتمّ فتح المعبر في 20 كانون الثاني لثلاثة أيام. ومنذ اللحظة التي أُعلن فيها عن ذلك انتشرت في الشبكات الاجتماعية شروط تقديم طلب للعبور، وتم بعد يومين من ذلك نشر قوائم من تمّت له الموافقة ممّن سيحظون بالعبور في كل واحد من الأيام الثلاثة. تم تقسيم أسمائهم إلى قوائم وفقًا للحاجة (الطبية، الأسرية، الإقامة، التعليم) ووفقا لأرقام الحافلات التي سيركبونها لدى دخولهم إلى المعبر. يهدف التسجيل المسبق والكتالوج المفصّل إلى منع التجمّعات بل والعنف وهو ما ظهر في المرات الماضية التي تم فيها فتح المعبر. وقد أعلن أمس مدير فرع المعابر والحدود في وزارة الداخلية بغزة، ماهر أبو صبحة، أنّ القائمة قد أُغلقت بعد أن تمت الموافقة على عبور 8000 شخص. أما أولئك الذين لم يتمكّنوا من التسجيل هذه المرة فسيعبّرون عن خيبة أملهم الكبيرة في الفيس بوك.
هناك تاريخ طويل من الفتح والإغلاق لمعبر رفح. وقد جرى ذلك في فترات وخصوصا منذ فكّ الارتباط الإسرائيلي عن قطاع غزة في شهر آب عام 2005، فقد تمّ حينها وضع قوات تابعة للسلطة الفلسطينية في المعابر تحت إشراف ممثّلين عن الاتحاد الأوروبي (EUBAM Rafah)، وأشرفت إسرائيل على الداخلين والخارجين من غرفة مراقبة في كرم أبو سالم. تمّت إدارة المعبر منذ ذلك الحين وفقا لـ “اتفاق المعابر” بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وبعد اختطاف جلعاد شاليط في شهر حزيران 2006 تمّ تقليص نشاط المعبر بشكل ملحوظ، بحسب طلب إسرائيل، ومع صعود حماس إلى الحكم في القطاع في حزيران 2007 تم تجميد اتفاق المعابر وأُغلق المعبر بشكل تامّ.
فتحت مصر المعبر في فترة حكم حماس لقطاع غزة لفترات متباعدة، لحاجات مثل عبور الطلاب أو الأشخاص الذين هم بحاجة إلى علاج طبّي. أدّت الضغوط في القطاع إلى اختراق الجدار في كانون الثاني عام 2008 بالقرب من المعبر، واجتاز عشرات الآلاف الحدود إلى مصر دون رقابة. بعد أحداث الأسطول التركي في حزيران 2010 أعادت مصر المعبر للنشاط الجزئي، وبعد الانقلاب ضدّ حكم مبارك في مصر تم إيقاف التنسيق بين إسرائيل ومصر بشكل تامّ، وتسارع نشاط المعبر. مع صعود محمد مرسي إلى الحكم في حزيران 2012 تم فتح المعبر بشكل كامل وعاد حجم نشاطه إلى الفترة التي سبقت اختطاف شاليط: نحو 40 ألف شخص في الشهر.
ومن أجل تلبية هذه النطاقات وتنظيم نشاط المعبر أجريَت فيه عمليات تعديل جدّية: فقد تمّ بناء المبنى الذي أقيم عام 1994 من جديد، ليلبّي المعايير الدولية للمعابر الحدودية. تم فيه تركيب أجهزة لقياس المغناطيسية، وماسحات التصوير المقطعي المحوسب للأمتعة، ناقلات للأمتعة والحقائب وتكييف للهواء، وتمّت توسعة صالات الانتظار وبدأت تعمل فيه كافتيريا. تمّ تنفيذ المشروع، الذي قُدّرت تكلفته بنحو مليون ونصف المليون دولار، من قبل مجلس التعاون الخليجي (GCC) وتبرع بدعمه البنك الإسلامي للتنمية (IBD) ومؤسسة الإغاثة الإسلامية (IIRO)، كجزء من مشروع إعادة إعمار غزة بعد عملية “الرصاص المصبوب” (كانون الأول 2008). ولكن، بعد الانقلاب العسكري في مصر في تموز 2013 وسلسلة الهجمات على قوات الجيش والشرطة المصرية في سيناء، تم إغلاق المعبر مجدّدا بأمر من الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، وتم فتحه منذ ذلك الحين لفترات متباعدة فقط. تم إغلاقه في شهر تشرين الأول الماضي بشكل تام تقريبا بعد الهجمة القاتلة على قاعدة عسكريّة في سيناء والتي قُتل فيها 33 جنديّا مصريا. وقد عمل المعبر بالمجموع منذ ذلك الحين لمدى أربعة أيام فقط، وعبر من خلاله عدد قليل من الناس.
على مرّ السنين، أصبح معبر رفح رمزًا للامبالاة العربية تجاه حالة غزة من ناحية، ومقياسا يشير إلى حالة العلاقات بين حركة حماس، السلطة الفلسطينية، مصر وإسرائيل من ناحية أخرى. وتُعتبر قضية الطلاب الذين علِقوا في القطاع، والتي تصدّرت العناوين في الإعلام الفلسطيني والعربي في الأسابيع الماضية، مثالا جيّدا لكيفية تشابك جميع هؤلاء اللاعبين مع بعضهم البعض. أدى إغلاق المعبر إلى عدم قدرة آلاف الطلاب الغزيين الذين يدرسون في جامعات الولايات المتحدة، أوروبا أو الدول العربيّة، على الخروج من غزة في بداية السنة الدراسية الأكاديمية الحالية. فقد بعضهم بسبب ذلك تأشيرات الدخول الخاصة بهم، المنح الدراسية، أو الرسوم الدراسية التي دفعوها، وهناك من أُجبِروا على تعليق دراستهم أو التخلّي عنها تماما.
ودعا العشرات من الطلاب العالقين الرئيس عباس والرئيس السيسي إلى إيجاد حلّ لمشكلتهم، وقالوا إنّ النتيجة ستكون تحوّل الشعب الفلسطيني إلى شعب جاهل. لقد طلبوا حلّا بديلا لمشكلة معبر رفح، واقترحوا، بما يحتاج إلى شجاعة كبيرة ليقال، أن يخرجوا من القطاع عن طريق معبر بيت حانون، وهو معبر إيرز. وقد وقّع على عريضة تطالب باستخدام المعبر الإسرائيلي، وفقا للناطق باسم المجموعة المحتجّة باسم جاد الله، 1500 طالب. وذكر موقع “مسلك” أنّه قد تمّ تقديم طلب رسمي لمنسّق أعمال الحكومة في الأراضي المحتلة. تمّت الموافقة على عبور بعض الطلاب ومنذ شهر كانون الثاني ترك بالفعل عشرات الطلاب القطاع عن طريقه. وفي أعقاب فتح معبر رفح اليوم نشر الطلاب بيانات شكر لكلا الرجلين اللذين تلقّيا الثناء العلني على الخطوة المصرية: الرئيس أبو مازن وخصمه محمد دحلان، واللذين يتمتّعان بالنقاط التي يمنحها لهم إنجاز كهذا في الرأي العام.
ولكن ما يحدث في المعابر لا يعبّر عن السياسة الإقليمية فحسب، وإنما قد يقوم بصياغتها. تحجم إسرائيل عن التدخّل باعتبارات مصر الأمنية في سيناء وبقرار فتح المعبر أو إغلاقه. ولكن لدى إسرائيل التزام أخلاقي إيجابي للسماح بدخول وخروج الناس من القطاع بشكل حرّ بقدر الإمكان، وخصوصا إذا أخذنا بالحسبان الضغوط التي تُصبّ فوقها. ولذلك فإنّ قرار إسرائيل بالسماح للطلاب بالخروج من القطاع عن طريق معبر إيرز هو قرار مرحّب به، وعلينا أن نأمُل بأنّ هذه هي بداية رفع الحصار عن القطاع.
نشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع Can Think.