لم تكن هناك مفاجآت في انتخابات الرئاسة المصرية. وكان واضحًا منذ البدء أنّ عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع السابق والرجل الأقوى في القيادة المصرية، سيكون الرئيس القادم. لقد ساعده منافسوه على المهمّة. قاطع خصوم السيسي الكبار، “الإخوان المسلمين”، بمعظمهم الانتخابات، وتركوا بذلك الطريق مفتوحًا لانتخابه بغالبية ساحقة، حيث سيتمّ تناسي نسبة التصويت المنخفضة نسبيًّا مع الزمن. فضلًا عن ذلك، فقد نافسه مرشّح واحد فقط، وهو حمدين صبّاحي، والذي فاز في الانتخابات السابقة للرئاسة عام 2012 بالمركز الثالث، من بين ثلاثة عشر مرشّحًا، حيث قام بالتصويت له نحو خمسة ملايين مصري. وصبّاحي ليس مجهولا في مصر. فقد كان أحد زعماء الحركة الطلابية في سنوات السبعينات، ورجل يساري وناشط ناصري تم اعتقاله مرّات عديدة، وعضو برلمان بارز خلال عقد. كان أحد زعماء ثورة يناير 2011 والتي أسقطت نظام مبارك، وتصدّى لـ “الإخوان المسلمين” واعتُبر ممثّلا عن قيم الثورة.
أدى الضرر الذي جلبه نظام “الإخوان” على الدولة إلى اعتبار الحاجة للاستقرار والإصلاح في نظر الكثير من المصريين أنها سابقة لكلّ شيء، حتى للرغبة في تعزيز قيم الثورة والعملية الديمقراطية
وكان من الواضح أنّ صبّاحي لا يملك قدرة المنافسة على مكانة وشعبية السيسي. لقد أدى إسقاط نظام “الإخوان” برئاسة محمد مرسي في منتصف 2013 إلى النظر إلى السيسي نظرة الشخصية الأقوى والأبرز في القيادة العسكرية التي قادت مصر في السنة الأخيرة. عززت خيبة الأمل القاسية، الغضب والإحباط التي تراكمت عند غالبية الطبقات في الشعب المصري في عام حكم “الإخوان” من الشعور بالحاجة إلى زعيم قوي، ليعيد الاستقرار إلى مصر، ويحارب الإرهاب الداخلي ويفرض القانون والنظام والأمن الشخصي، ويصلح الاقتصاد المنهار منذ سقوط نظام مبارك ويعزّز مكانة مصر الإقليمية والدولية التي تأذّتْ. يعتبر السيسي زعيمًا قويّا في نظر غالبية الشعب، الأحزاب ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى تمتّعه بالدعم الكامل من أصدقائه في قيادة الجيش. هناك من شبّهه بمن يستطيع أن يكون عبد الناصر الثاني، رغم أنّه لا يزال بعيدًا عن مكانة الزعيم المصري والعربي في سنوات الخمسينات والستينات. ولكن مجرّد التشبيه يدلّ على وجود الكثيرين في مصر ممّن يتوقون لزعيم قوي يقود مصر إلى طريق جديد.
لا يريد الجميع في مصر قيادة السيسي. على رأس هؤلاء، “الإخوان المسلمون” الذين يرون فيه خصمًا وعدوّا، لأنّه عزل مرسي، الذي اختير في انتخابات حرّة من قبل غالبيّة الشعب، وأعلن الحرب عليهم. ولكن هناك قلق كبير أيضًا لدى هؤلاء الذين تصدّوا لحكم “الإخوان”، ومن ضمنهم جهات ليبرالية، من أنّ يبتعد السيسي عن قيم الثورة، ويوقف العملية الديمقراطية التي تلتها، ويعيد مصر إلى أيام نظام مبارك ويستغلّ قوّته لبناء دكتاتورية عسكرية. ولكن، أدى الضرر الذي جلبه نظام “الإخوان” على الدولة إلى اعتبار الحاجة للاستقرار والإصلاح في نظر الكثير من المصريين أنها سابقة لكلّ شيء، حتى للرغبة في تعزيز قيم الثورة والعملية الديمقراطية.
تقف أمام السيسي الآن مهمّتان صعبتان أساسيّتان، وهما مرتبطتان ببعضهما البعض، وقد تدرّب عليهما في السنة الماضية. الأولى، هي إصلاح الوضع الاقتصادي. فمصر تعاني من ضائقة اقتصادية مُهيكلة، وقد ازدادت هذه الضائقة منذ ثورة 2011، حيث أنّ عدم الاستقرار قد أضرّ بمباشرة الاستثمار الأجنبي وبحجم السياحة. سيتعيّن على السيسي إيجاد طرق لجذب مستثمرين أجانب، تقليص البطالة وبشكل أساسي لدى الشباب، وإعادة السائحين إلى مصر وتطوير البنى التحتيّة والصناعة. وهذه مهمّة صعبة جدّا، لا يمكن تنفيذها في مرحلة زمنية قصيرة. عرض السيسي برنامجًا اقتصاديًّا لإصلاح مصر وتحدّث عن تحسين الحالة خلال عامين. ولكن منذ عام 2011 أضيف عامل جديد للعبة السياسية: فإذا لم ينجح السيسي في إظهار بداية لإصلاح حقيقي في مرحلة زمنية قصيرة، فمن الممكن أن تخرج الحشود مجدّدًا للشوارع لتطالب بإسقاطه، تحديدًا بسبب الآمال والتوقّعات التي أثارها. يعلّمنا إسقاط مبارك، أنّه حتى حين يدعم الجيش النظام، فإنّ الأمر لا يعكس ضمانًا آخر بأنّ النظام لن يُطاح به.
تقف أمام السيسي الآن مهمّتان صعبتان أساسيّتان: الأولى، هي إصلاح الوضع الاقتصادي والثانية، هي ضرورة مواجهة “الإخوان” مع توسع الإرهاب في مصر والحاجة إلى إعادة القانون والنظام
المهمّة الأخرى التي تقف أمام السيسي، هي ضرورة مواجهة “الإخوان” مع توسع الإرهاب في مصر ومع الحاجة إلى إعادة القانون والنظام. يواجه “الإخوان” موقفًا صعبًا. فقد تمّ إسقاطهم من النظام، وأعلِنَ عنهم كتنظيم إرهابي وحركة خارجة عن القانون، وتمّ قتل المئات من نشطائهم في مواجهات مع القوى الأمنية. واعتُقل الكثير من قادتهم وقُدّموا للمحاكمة، وتم إصدار أحكام الإعدام على بعضهم (والتي ليس بالضرورة أنها ستُنفّذ). فأوضح السيسي في مقابلاته مع الإعلام أنّه ينوي مواجهة مشكلة التطرّف الإسلامي، التي يجسّدها “الإخوان” والجماعات الإسلامية الأخرى، بيد من حديد. وأكد على أنّه لا ينوي السماح للإخوان وأمثالهم، وللتنظيمات الإرهابية المرتبطة بهم، بالتنظيم والاستمرار، بسبب توجّههم المتطرّف، ولأنّ الدستور لا يسمح بوجود الأحزاب الدينية.
في مثل هذه الحالة، يتردّد “الإخوان” بخصوص طريقهم المستقبَلية. فمن جهة، فإن إخراجهم من القانون كمنظمة إرهابية، يجعل السيسي يعزلهم عن إمكانية اندماجهم في السلطة من خلال الحوار، طالما أنّهم يمثّلون تنظيمًا سياسيًّا. وهناك شكّ أيضًا إنْ كانوا يرغبون بالاندماج في السلطة، وذلك على ضوء شعورهم بأنّهم أُسقِطوا بطريقة غير شرعية، بعد أن حصلوا على ثقة غالبية الشعب عام 2012. ومن جهة أخرى، فإنّ معظم الشعب تعب منهم ويدعم السيسي في تحرّكاته لقمعهم. إن خرجوا في صراع عنيف شامل ضدّ النظام الحالي، فمن الممكن أن يدينهم الشعب باعتبارهم مسؤولين عن انهيار الأوضاع إلى حرب أهلية. من خلال هذا التردّد، يدير “الإخوان” في الوقت الراهن مواجهة محدودة مع النظام، والتي أساسها عمليات إرهابية ضدّ جهات حكومية في سيناء وأماكن أخرى، ولكنّ ذلك لا يؤدّي بهم إلى أيّ مكان.
سيضطرّ السيسي إلى إعطاء رأيه أيضًا بعلاقاته مع القوى العظمى. هناك في القيادة المصرية كما يبدو غضب على الإدارة الأمريكية، لكونها لم تسارع في منح كامل دعمها للنظام الحالي، بزعم أنّ هذا الأخير قد أسقط سلطة منتخبة بطريقة ديمقراطية وبانتخابات حرّة، وبالأساس لأنّ الإدارة الأمريكية علّقت كردّ على ذلك جزءًا من إرساليات المعدّات العسكرية التي وُعدتْ بها مصر. دفع غضب المصريين بهم لإجراء محادثات استثنائية مع روسيا، حيث زار في نهاية 2013 وبداية 2014 وزير الدفاع والخارجية الروسيّين مدينة القاهرة وقام نظراؤهما المصريين بزيارة متبادلة في موسكو. بالمقابل، تم نشر تقارير حول صفقة سلاح كبيرة ومهمّة يتمّ الإعداد لها بين الدولتين. في الوقت الراهن لا يوجد أيّ تأكيد رسمي على هذه الأنباء بخصوص الصفقة وقد تلاشت الأخبار حولها، ويبدو أنّ هذه الخطوة قد خُصّصتْ بدرجة كبيرة للتدليل على الاستياء المصري من السياسة الأمريكية. عندما انتُخب السيسي الآن رئيسًا بطريقة ديمقراطية، فالخيار الأكثر رجحانًا هو عدم توقيع صفقة السلاح الكبيرة بين مصر وروسيا، ولكن يبدو أنّ تعاونًا عسكريًّا محدودًا سيحدث بينهما. في جميع الأحوال، فإن النقطة الرئيسية في هذه القضية هو إلى أي مدى ستعمل الإدارة الأمريكية على مواءمة الأمور مع القيادة المصرية.
وفي النهاية، فإنّ انتخاب السيسي هو الخيار الأكثر رغبًا بالنسبة لإسرائيل. وبالتأكيد، فإنّ حكمه أفضل من حكم “الإخوان”، الذين يحملون نهجًا معاديًّا لإسرائيل، وأيضًا منافسه في الانتخابات، صبّاحي، تحفّظ عن إسرائيل وعبّر عن دعمه لحماس. بالمقابل، يقدّم السيسي السلام مع إسرائيل باعتباره رصيدًا استراتيجيّا لمصر، ولا يشكّك بضرورته وأعلن بشكل صريح أنّه سيحترم معاهدة السلام. بحكم منصبه في الماضي كرئيس للاستخبارات وكوزير للدفاع، يعي السيسي الفوائد الكامنة في التنسيق العسكري مع إسرائيل، وأعرب عن رغبته بإصلاح الملحق العسكري لاتفاق السلام، من خلال التفاهم مع إسرائيل، بحيث يمكّن مصر من تعزيز سيطرتها على سيناء وقدرتها على مواجهة الهجمات الإرهابية وتهريب السلاح في شبه الجزيرة.
يرى السيسي في حماس أيضًا تنظيمًا إرهابيًّا مرتبطا بـ “الإخوان”، ومن المرجّح أن يستمر في عرقلة تهريب السلاح من سيناء إلى قطاع غزة. ولذلك فإنّ نهجه يضمن المزيد من التفاهم والتعاون مع إسرائيل في المجال الأمني. من هذه الناحية، عملت إسرائيل بشكل صحيح حين تركت مصر تضع قواتها في سيناء إضافة إلى ما هو متفق عليه في معاهدة السلام، وحين عملت مقابل الإدارة الأمريكية على تقليل الاحتكاك بينها وبين القيادة المصرية.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع معهد أبحاث الأمن القومي INSS