كان أحد الأسئلة الأكثر شيوعا والتي طُرحت في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية هو “لماذا لم يفعل اليهود شيئا لحماية أنفسهم”، “كيف اقتيد 6 ملايين “كالغنم إلى الذبح”، لماذا لم يهربوا أو يقاوموا”. ومع ذلك، فمع مرور السنوات وكلما كثرت الشهادات، اتضح أنّ أبعاد المقاومة كانت أكبر بكثير مما كان يمكن لأحد أن يتصوّرها.
الصعوبة في الهروب
جعلت الظروف التي أنشأها النازيون في أوروبا المقاومة شبه مستحيلة. أولا، استغرق لليهود وقتا كي يفهموا أنّ هناك ضرورة للهروب. كانت الأنباء حول ما يحدث في شرق بولندا في السنوات الأولى بمثابة شائعات فقط. بالإضافة إلى ذلك، كانت منظومة التضليل الألمانية بخصوص الإبادة آلة معدّة جيّدا وذكية. إنسانيًّا وبشكل أساسي، لم يستطع اليهود وكذلك “رفضوا” التصديق أنّ هناك إبادة جماعية متعمّدة وممأسسة إلى هذا الحد. وحتى عندما بدأ الترحيل، اعتقد الكثير من اليهود أنّهم يُنقلون للعيش في القرى بشرق أوروبا، ولم يدركوا أنّهم يُقتادون ليلاقوا حتفهم حتى اللحظة الأخيرة تماما.
ثانيا، تم الترحيل نفسه من قبل خلايا لعناصر شرطة وجنود مسلّحين، لم يتردّدوا في إطلاق النار على من لم يستجب للأوامر، وبطبيعة الحال على من حاول الهرب. ولكن حتى لو كان هناك من استطاع الهرب من تحت أيدي المسلّحين، فقد اختاروا في بعض الأحيان البقاء كي لا يتركوا خلفهم أسرهم، آملين أن يستطيعوا حمايتها لاحقا.
بالإضافة إلى ذلك، فقد عمل الألمان في بيئة معادية لليهود وللسامية في معظمها، بحيث إنّه في بعض الأحيان حتى من نجح في الفرار وجد صعوبة في العثور على ملجأ، وتم تسليمه مجددا إلى لألمان من قبل الجيران الذين كشفوا عن أماكن الاختباء. وفضلا عن ذلك، فقد طُرد اليهود ونُقلوا في القطارات في جميع أنحاء أوروبا. وأحيانا، وصلوا إلى أماكن تبعد مئات الكيلومترات عن كل بلدة، وحتى لو هربوا، فلم يكن لديهم إلى أين يهربون، أو أي احتمال في البقاء على قيد الحياة في البرد الأوروبي القارس من دون مأوى وغذاء.
المقاومة المسلحة
ومع ذلك، فرغم هذه الظروف الصعبة، نجح عشرات الآلاف من اليهود في مقاومة النازيين. تلقّى اليهود الذين عملوا بسرية، في وقت مبكّر نسبيًّا، أخبارا وشهادات موثوقة حول نطاق الإبادة، وحاولوا نشرها لتجهيز المقاومة. جرت المقاومة اليهودية على ثلاثة مستويات: الهروب وتهريب اليهود من البلدات والغيتوات إلى الغابات والقتال كقوى غير نظامية فيها؛ اختباء الأفراد في مخابئ مختلفة، تنفيذ أعمال إنقاذ جماعية وإنقاذ الأطفال؛ والتمرّد المسلّح في الغيتوات والمعسكرات.
شارك اليهود في وسط وغرب أوروبا بمنظمات سرية مسلّحة. وقد عملوا في بلجيكا وفرنسا في منظمات سرية وفي وحدات المقاومة، وكان لهم دور مهم أيضًا في الانتفاضة الوطنية السلوفاكية التي اندلعت صيف 1944. انضم معظم اليهود الذين فرّوا إلى الجبال في يوغوسلافيا إلى صفوف القوى غير النظامية. وصل آلاف اليهود إلى الغابات في روسيا البيضاء وأوكرانيا، وأقاموا وحدات القوى غير النظامية اليهودية وتميّزوا في القتال. وانضمّ آخرون إلى كتائب مختلطة. في الغابات الكثيفة، ومن خلال الاختباء فيها، أقيمت أيضًا مخيمات أسرية ليهود فرّوا إليها، وقد اعتنى بهم المقاتلون وحموهم. بدأت حركات التمرّد الأولى في الغيتوات عام 1942 في روسيا البيضاء، أوكرانيا وبولندا والتي وصلت إلى أكثر من 15 حركة تمرّد أو محاولة للتمرّد. في معظم الحالات نجح الألمان في قتل معظم المتمرّدين، ومن بينهم نساء وأطفال، ونجح القليل منهم في الفرار إلى الغابات والانضمام إلى القوى غير النظامية أو الاختباء.
حدثت في معسكرات الاعتقال والإبادة أيضا حالات تمرّد من قبل السجناء. في آب عام 1943، نجحت ثلاث مجموعات من السجناء الذين تم تشغيلهم في حرق الجثث وفي تصنيف ممتلكات المقتولين في معسكر الإبادة تريبلينكا، في قتل بعض أفراد كادر المعسكر، وسيطرت على مخزن السلاح ومن ثم أحرقت غرف الغاز وثكنات المعسكر. وتمرّد السجناء في معسكر سوبيبور، بل ونجح العشرات منهم في الفرار. وظهرت أيضا في معسكر أوشفيتز – بيركناو محاولات المقاومة، أعمال التخريب ومحاولات الهروب. في تشرين الأول عام 1944، نجح السجناء الذين عملوا في وحدة الـ “زوندركوماندو” في تفجير محرقة واحدة، على الأقل، وتدميرها.
تمرد غيتو وارسو
كان غيتو وارسو أكبر الغيتوات اليهودية في بولندا في فترة الهولوكوست. في 22 تموز عام 1942، بدأ الألمان الترحيل الكبير من غيتو وارسو. حتى 21 أيلول، أُرسِل إلى معسكر الإبادة تريبلينكا نحو 260,000 شخص وقُتلوا فيه. وعند الانتهاء من الترحيل إلى معسكر تريبلينكا، بقي في الغيتو 55,000-60,000 يهودي وتم تجميعهم في بعض الأبنية. وتقلّصت مساحة الغيتو كثيرا.
شعر الباقون، وكان الكثير منهم من الشباب الذين فقدوا أسرهم، بالتيتم الكبير وخيبة الأمل المريرة. الكثير منهم أنبهم ضميرهم لأنهم لم يقاوموا مسبقا وهكذا سمحوا بترحيل أسرهم. لقد علموا أن مصيرهم سيكون مشابها، ولذلك فقد التزموا بتأسيس منظمة سرية، عملت فيها معظم الأحزاب والحركات الشبابية. في تشرين الأول عام 1942، تأسست “المنظمة اليهودية المقاتلة” (ŻOB) التي ترأسها شاب يهودي في الثالثة والعشرين من عمره وهو مردخاي أنيليفيتش. أقامت الحركة الشبابية الإصلاحية جهة مقاتلة خاصّة بها، وهي “الاتحاد العسكري اليهودي” ŻZW)).
في 18 كانون الثاني عام 1943، بدأ الألمان بترحيل آخر. قدّرت قيادة المنظمة السرية اليهودية أنّه يجري الحديث عن الترحيل النهائي من الغيتو فردّت بالقوة بما يُعرف باسم “الثورة الصغرى”. بعد اكتشاف المقاومة توقف الإجراء بمبادرة الألمان، وحدث تحوّل في أوساط يهود الغيتو. لقد اعتقدوا أنّ توقف الإجراء قد جاء في أعقاب المقاومة، فاعتمد الكثيرون طريق المنظمات السرية وبدأوا بالاستعداد للاختباء في الملاجئ التي بُنيت في أقبية المنازل والاستعداد للمقاومة الجماعية.
في 19 نيسان عام 1943، عشية عيد الفصح اليهودي، بدأ “ترحيل التصفية”، وبدأت المنظمات السرية بالمقاومة. شارك في التمرد وقاتل أعضاء من ŻOB و ŻZW معًا. فوجئ الألمان من اكتشاف مقاومة المقاتلين وسكان الغيتو الذين تحصّنوا في الملاجئ وفي أماكن الاختباء. بعد خمسة أيام من القتال بدأ الألمان بالإشعال الممنهج لمنازل الغيتو فأصبحت فخّا من النار لسكانها. وقد قاتل يهود الغيتو ببطولة طوال نحو شهر وأكثر.
كان تمرد غيتو وارسو هو التمرد الأول والأكبر في منطقة حضرية في أوروبا المحتلّة من قبل النازيين. انتشرت الشائعات حوله في كل مكان، وقد اعتُبر نموذجًا لتركيزات السكان اليهود في الغيتوات والمعسكرات، ومنح الأمل للكثير من اليهود. كان حجم التمردات التي اندلعت لاحقا أصغر بسبب الظروف الموضوعية من العزلة، نقص الأسلحة، وعداء البيئة.
أنصار الشعب اليهودي
إنّ مقاومة اليهود في الهولوكوست هي في الواقع قصة شبه مستحيلة من البطولة والأمل. ولكن هذه القصة لم تكن لتصل إلى حد الكمال من دون الجزء الذي يتحدث عن القلائل الذين ساعدوا على إنقاذ اليهود. ويدور الحديث عن أولئك الأشخاص الذين حظوا لاحقا باسم “أنصار الشعب اليهودي”.
كان موقف معظم السكان المحليين في فترة الهولوكوست موقفا من اللامبالاة أو العداء. شاهد معظم الناس كيف تم إخراج جيرانهم منذ زمن طويل من منازلهم، إرسالهم أو قتلهم في نفس المكان؛ وتعاون بعضهم مع القتلة؛ ومن ثم كسب الكثير منهم من ممتلكات اليهود عن طريق السرقة. ولكن في عالم يفتقد إلى الأخلاق والقيم، كانت هناك أيضا قلّة من الناس الذين تحلوا بالشجاعة النادرة للحفاظ على قيمهم الأخلاقية. خلافًا للمحيطين بهم، اعتبر هؤلاء المنقذون اليهودَ بشرًا وشعروا أنهم ملزمون أخلاقيًّا تجاههم.
وعندما طرق اليهود أبوابهم، اضطرّ الواقفون جانبا إلى اتخاذ قرار فوري. كانت تلك في العادة بادرة إنسانية غريزية، والتي تمت انطلاقا من دافع سريع، وربما لاحقا أكثر فقط تنضج لتكون قرارا أخلاقيا. لقد طالت الموافقة على تقديم مخبأ أثناء المداهمات أو الاعتقالات – توفير الملجأ المؤقت ليوم أو يومين حتى العثور على مكان آخر – واستمر الإنقاذ لأشهر بل سنوات، إلى جانب الخطر الدائم على حياة المنقِذين وأسرهم.
كانت هناك طرق عديدة ساعد فيها أولئك الأشخاص اليهود. إضافة إلى إخفائهم في بيوتهم، توفير الطعام لهم، قدموا لهم المساعدة على تزوير الوثائق واجتياز الحدود. كان هناك من استخدم مكانته وعلاقاته بالحزب النازي من أجل إبقاء اليهود كقوة عاملة زعما أنّهم “يستكملون المجهود الحربي الألماني”.
كان معظم المنقِذين أشخاصًا عاديّين. عمل بعضهم انطلاقا من قناعة سياسية، أيديولوجية أو دينية. حتى اليوم، اعتُرف بأنصار الشعب اليهود من 44 دولة وقومية. وهي مجموعة متنوعة: تتضمن مسيحيين من جميع الكنائس والطوائف، مسلمين، علمانيين، رجال ونساء من جميع الأعمار ومن جميع الطبقات الاجتماعية.