بعض الصور الأيقونية المرتبطة بالهولوكوست محفورة في الذاكرة الجماعة في إسرائيل. يظهر في إحداها الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، وأدولف هتلر، الزعيم النازي المعروف، حين كانا يجلسان بجانب بعضهما في لقاء هادئ ومريح. في صورة أخرى، أقلّ شهرة، يظهر الحاج أمين وهو يشير بالتحيّة النازية بين صفوف الجنود النازيين.
بصرف النظر عن منصب الحاج محمد أمين الحسيني كمفتي للقدس، فقد كان أيضًا من القيادة الوطنية الفلسطينية الأولى وقاد الثورة العربية الكبرى في سنوات الثلاثينات، كان من أبرز المعارضين للصهيونية، بل وربّما هو مسؤولا عن تحويل كلمة “الصهيوني”، يهودي له صلة بأرض إسرائيل، إلى كلمة سيّئة السمعة في اللغة العربية (في حين أنّها تقال في اللغة العبرية في سياق إيجابي). إحدى الطرق التي سعى من خلالها إلى منع هجرة اليهود إلى إسرائيل في إطار تلك الصهيونية، كانت التعاون مع النازيين، وتشجيع هتلر وحلفائه على إتمام إبادتهم لليهود حتى في أوروبا.
كثيرًا ما يتمّ سماع إنكار الهولوكوست من قبل الفلسطينيين، وأحيانًا الاعتراف بها ولكن فقط بأرقام أقلّ من البيانات المؤكّدة، والتي قُتل حسبها نحو ستّة ملايين يهودي بين السنوات 1939 – 1945 في أوروبا (حتى محمود عباس، والذي هو رئيس السلطة الفلسطينية اليوم، ادعى في السابق أنّه قد قُتل في المحرقة عشرات الآلاف من اليهود فقط، وهو ادعاء لا أساس له وثبت أنّه خاطئ). ومع ذلك، فإنّ اشتراك الحسيني في “الحلّ النهائي”، كما سمّيت الخطّة النازية لإبادة كلّ يهود أوروبا، لا يمكن إنكاره. الحاج بنفسه لم يحاول أن يخفي ذلك، بل إنّه تفاخر فيه.
في 6 تشرين الثاني عام 1941 وصل الحسيني إلى برلين والتقى يواكيم فون ريبنتروب، أحد زعماء النظام النازي في ألمانيا. في وقت لاحق، اصطحب الحسيني بشكل شخصيّ إلى جولة تفقدية ولمتابعة عملية الإبادة في غرف الغاز في أوشفيتس، جنبًا إلى جنب مع أدولف إيخمان، والذي أعدم بعد سنوات في إسرائيل على جرائمه النازية ومسؤوليته المباشرة عن مقتل ما يقرب نصف مليون يهودي.
في 28 من نفس الشهر التقى مع هتلر نفسه، وبعد ذلك قال إنّه كان هناك توافق في الآراء بينهما، وإنّ هتلر قال له ينبغي حلّ المشكلة اليهودية “خطوة وراء خطوة”. تلقّى الحسيني وعدًا بأنّه حين يتم احتلال الشرق الأوسط فإنّ “هدف ألمانيا الوحيد سيكون إبادة العنصر اليهودي المقيم في المجال العربي تحت الحماية البريطانيّة”. لم يتطرّق لا هتلر ولا الحسيني للملاحقات وقتل المسلمين الذي مارسه النازيّون في أوروبا.
توقّع الحسيني أن يتقدّم الجيش الألماني، الذي حقّق انتصارات كبيرة خلال حملته في الشمال الأفريقي من هناك، بعد انتصاره، شرقًا نحو مصر وأرض إسرائيل. انضمّ إلى وحدة إس إس في البلقان، وهناك ساهم في تجنيد الجنود لشعبة الإس إس من المسلمين في البوسنة، وكذلك في تأسيس الفيلق العربي الحرّ، وهو وحدة عربية عملت في إطار الجيش الألماني (جيش دائم لألمانيا النازية).
بالإضافة إلى ذلك، تعاون الحسيني مع العمليات النازية داخل أراضي إسرائيل، وكان من مخطّطي “عملية أطلس”، تسميم خزّانات المياه من أجل إبادة يهود تل أبيب من قبل مظليّين ألمان وعرب هبطوا في منطقة أريحا. ووفقًا للتقديرات، كانت كمية السمّ قادرة على إبادة نحو ربع مليون شخص، ولكن في تشرين الأول عام 1944 قبضت الشرطة السرّية البريطانية على بعض المشتركين في العملية في منطقة أريحا، ولم يتمّ تنفيذها.
بين السنوات 1941 – 1945 كان الحسيني ناشطا في خدمة النازيين، بل وتلقّى منهم راتبًا شهريّا يقدّر بـ 50,000 مارك (ضعف راتب المشير في الجيش الألماني). في هذا الإطار، توجه الحسيني إلى حكومات إيطاليا، بلغاريا وهنجاريا طالبًا إلغاء التصاريح التي أعطوها لليهود في حين طالبهم بالتعجيل لطرد اليهود إلى بولندا، وهي خطوة تعني تسليمهم للنازيين.
كتب الحاج أمين في مذكّراته التي نشرت في صحيفة “الأخبار اليوم” القاهرية بعد الحرب: “كان أحد شروطنا للتعاون العسكري بين العرب وألمانيا، إعطاء الحرية في إبادة اليهود في فلسطين والدول العربية الأخرى. في رسالة بعثتُ بها إلى أدولف هتلر طالبت بإعلان صريح من قبل ألمانيا وإيطاليا بأنّ تعترفان بحقّ الدول العربية في حلّ مشكلة الأقليات اليهودية بشكل يلبّي تطلّعاتها العرقية والقومية، ووفقًا للطرق العلمية التي اتّخذتها ألمانيا وإيطاليا تجاه اليهود في بلدانهم”.
في تصريح أدلى به في تموز عام 1946 تطرّق مساعد أدولف إيخمان إلى مشاركة الحسيني في عملية إبادة اليهود: “أعتقد أنه كان للمفتي، المتواجد منذ 1941 في برلين، دورًا حاسمًا في قرار الحكومة الألمانية بإبادة يهود أوروبا. في جميع لقاءاته مع هتلر، ريبنتروب وهيملر، عاد وعرض إبادة اليهود. لقد رأى في ذلك حلّا مريحًا لمشكلة أرض إسرائيل. في بثّه بإذاعة برلين، تفوّق حتّى علينا في هجماته المعادية للسامية”.
في الواقع، فقد حقًّق الحسيني نتائج معاكسة لطموحاته، حيث إنّ ملاحقة اليهود في أوروبا زادت فحسب من الهجرة إلى أرض إسرائيل، والتي هي بالنسبة لليهود وطنهم التاريخي. بعد هزيمة الألمان عند انتهاء الحرب زادت هجرة اليهود الفارّين من أوروبا إلى إسرائيل، وفي نهاية الأمر، يمكننا أن نقول إنّه كان للنازيّين مساهمة كبيرة، حتى لو كانت فظيعة، في إقامة دولة إسرائيل عام 1948.
هناك جوانب كثيرة للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وفي أكثر من مرّة يدخل النقاش حول الكارثة إلى دائرة الجدل. في الكثير من الأحيان تهدف محاولات إنكار المحرقة أو التقليل من مدى قتل “الآلة النازية” إلى إخفاء ارتباط اليهود بإسرائيل باعتبارها “أرض لجوء” للشعب اليهودي، وحتى اليوم فإنّ الفلسطينيين غير مستعدّين للاعتراف بيهودية الدولة. ولكن طريقة عمل الحاج أمين الحسيني حتى سنوات الأربعينات من القرن الماضي، تُظهر أنّه فهم بالفعل قوّة هذا الارتباط، وحاول منع حدوثه من خلال التعاون والمساهمة في إحدى أكثر الجرائم بشاعة في تاريخ البشرية.
لا عجب إذن أنّ العديد من الإسرائيليين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، يُكثرون من ذكر عمل الحاج أمين الحسيني مع النازيين في محاولة منهم أن يعرضوا للعالم “الوجه الحقيقي” للفلسطينيين الذين يطمحون، بحسب ادّعائه، إلى القضاء على دولة إسرائيل واليهود. يذكر نتنياهو هذه الأمور على قدم المساواة مع ادّعاءات منكري الكارثة والمحاولات المعاصرة للقضاء على إسرائيل.
لا نخطأ إذا افترضنا أن نشاط الحاج وآراءه قد ساهمت، أيضًا في تغذية الكراهية بين الفلسطينيين واليهود والتي كما نعلم ازدادت أكثر فأكثر مع السنين، وربّما، بخلاف مقصده الأساسي، أثر البطل القومي الفلسطيني إلى تأجيل إقامة الدولة الفلسطينية لسنوات طويلة كان بالإمكان أن تكون أقصر بكثير؟