كُتبت هذه المقالة بهدف إثارة نقاش نقديّ حول التحوّلات في العالم العربي، أسبابها، وعواقبها. والهدف هو محاولة فهم العلاقة بين المسلسل المستمرّ للانقسامات الدينية بين الفئات وداخلها، وبين انهيار المجتمعات والدول في المنطقة. يمكن أن تكون إدارة نقاش كهذا على مستوى البحث الأكاديمي مبكرة جدًّا، لكن من الممكن طرح افتراضات. وهذا أحدها.
الانهيار الداخلي (implosion)، هو عمليّة تُضغط فيها منظومة باتجاه الداخل، نتيجة لضغط خارجي وفرق هائل في الضغط بين الخارج والداخل، ما يؤدي إلى انهيار المنظومة عبر إنتاج طاقة هدّامة. هذه استعارة ممكنة لوصف العملية التي تجري في العالم الإسلامي اليوم. أوّلًا، هذه عمليّة تتحرّك من الخارج إلى الداخل. فقد بدأت بضغط شديد وبانهيار الحدود بين العالم العربي وسائر العالم، ما أدّى إلى غزو خارجي، أعقبه انهيار العلاقات السنية – الشيعيّة، ثمّ انهيار العلاقات السنية نفسها اليوم. ثانيًا، كما في العملية الميكانيكية، ثمة إطلاق طاقة هائلة هنا أيضًا.
فقبل نحو ثلاث سنوات، في فجر ما كان يُدعى آنذاك “الربيع العربي”، شاركتُ في مؤتمر شبه أكاديمي مع زملاء من دول عربية، طُرحت خلاله قضية الفروق بين النظرات المختلفة إلى الدين. وعبّر عدد من زملائنا عن غضبهم لمجرد إثارة السؤال. أصرّوا على أنّ الإسلام هو كيان واحد عالمي. وما الادّعاءات الغربية بوجود توتّر بين المجموعات المتطرفة والمعتدلة، أو بين الشيعة والسنة، سوى اختراعات وألاعيب تهدف إلى مساعدة النخب الموالية للغرب على الاستمرار في التحكّم بالمنطقة. لطالما رفض العرب هذا التوجّه، وهم يصحون الآن وينفضون عنهم غبار الحكّام الفاسدين.
مذّاك، تدفقت كميات كبيرة من المياه في النيل والفرات، والقصة اليوم مختلفة كلّيًا. ففي نظرة تاريخية بعيدة، يمكن وصفها كانهيار داخلي من ثلاث مراحل. الأولى هي انهيار الحدود الخارجية لعالم الإسلام العربي. ويمكن أن نشمل في هذه المرحلة تحدي صدام حسين للغرب، نمو التنظيمات الجهادية وتوجهها لطريق الإرهاب الدولي، ووصول عناصر متطرفة إلى السلطة من الجزائر حتى أفغانستان. وأشار صامويل هنتنجتون، في مقالته الشهيرة حول صدام الحضارات إلى هذه الظاهرة. لكنه لم يسبر أغوارها عميقًا، ولا توقّع الاضطرابات الداخلية داخل الحضارة الإسلامية.
وكان الغزوُ الأمريكي للعراق وأفغانستان نقطةَ التحول في عملية انهيار الحدود الخارجية، ما أدّى إلى مرحلة الانهيار الثانية – انهيار العلاقات السنية – الشيعية. صحيح أنّ الغزو كان محفزًا لعمليات الدمقرطة، لكنه بالمقابل أخلّ بالتوازن الرقيق والطويل المدى بين الطوائف، ووضعها على مسار اصطدام. ومجددًا، يمكننا التنازل عن البحث الدقيق في جذور العملية، سواء طموح تنظيم القاعدة باستغلال الفراغ في السلطة لإقامة إمارة سنية راديكالية على الأرض، أو الموقف الميليشوي – الشيعي لمقتدى الصدر، أو المحاولة الشيعية لإقصاء السنة عن التأثير في الدولة. كل هذه الأمور معًا أدّت إلى انهيار التوازن الطائفي واندلاع حرب عالمية طائفية. توسعت الحرب وامتدت من العراق إلى سوريا والخليج، ويبدو أنها لن تتوقف قريبًا.
لكنّ العملية لم تتوقف هنا، واستمرّ الانهيار الداخلي. فالحرب بين السنة والشيعة فاقمت أيضًا الخلافات داخل العالم السُّني نفسه، وأدّت إلى المرحلة الثالثة. فإذا تأملنا في العمليّات الآنيّة في مصر في سياق المرحلة الثانية من الانهيار – الحرب السنية – الشيعية – يمكن ألّا يكون المهم فشل الرئيس مرسي في تحقيق وعود الثورة، بل الخوف المتزايد لدى الناس، ولا سيّما النخب المحافظة، من ميليشويّة الإسلام المتطرف. فالحروب الدينية، وحشية التفجيرات الجهادية في العراق، وسيطرة السنة المتطرفين على أجزاء من سوريا والعراق والنية المعلَنة في الإطاحة بزعماء تقليديين لإقامة إمارات وخلافة إسلامية، كلّ هذا عمّق الفجوة بين نموذج الدولة المثالي الذي وعد به الإخوان وبين الواقع الإقليمي، ونسج تحالفًا قويًّا بين الشعب الخائف والنخب المحافِظة ضدّ الإخوان المسلمين.
أخافت هذه العمليات بالأساس السعودية وعددًا من جيرانها، التي يشكّل الاستقرار والمحافظة مفتاح بقائها. من الواضح اليوم أنّ السعودية بذلت جهودًا كبيرة لإفشال مرسي، وأقامت بالتأكيد علاقة مع قادة الجيش المصري، ووعدت بالدعم الاقتصادي والسياسي لأي إجراء يقصي الإخوان عن السلطة.
وللمفارقة، تجد السعودية نفسَها في موقفَين متناقضَين بين المرحلة الثانية، التي تدعم فيها التنظيمات الميليشوية السنية في سوريا ضدّ الشيعة، والمرحلة الثالثة، التي تُحارب فيها التنظيمات نفسَها في مصر. لكن بين هذه وتلك، فإنّ الانهيار الداخلي في العالم السني يستمرّ ويتفاقم، ليس داخل مصر فحسب، بل أيضًا بين السعودية، الكويت، والإمارات العربية المتحدة، وبين قطر وعُمان، ووسط دول أخرى في شمال إفريقيا والمشرق. وهكذا يأخذ الصدع بالتوسع بين أجزاء واسعة من العالم العربي وبين تركيا (الدولة السنية أيضًا).
في مصر، سيستمرّ الصراع، وقد يتفاقم أيضًا. ويمكن أن نرى صدامات عنيفة بين مجموعات سنية في أماكن أخرى أيضًا. قد تؤدي هذه العملية إلى ضعف الجبهة السنية في سوريا والعراق في مواجهة الشيعة، الذين لا يزالون يحافظون على وحدتهم حتى الآن. لكن في نهاية الأمر، ربما بعد سنوات طويلة، نأمل أن يؤدي هذا الانهيار إلى تكوّن طاقة إيجابية، تعيد التوازن وتأتي بديمقراطية حقة.