في المقالين الأوليين من سلسلة ركائز الثقافة الإسرائيلية، تطرقنا إلى شخصيتين اهتمتا بالكتابة – شاعرة الحب ليئة غولدبرغ والمفكّر اليميني زئيف جابوتينسكي. ولكن هذه المرة سنتحدث عن شخصية كانت ستبدو الرموز الإسرائيلية والخط الإسرائيلي من دونها مختلفة تماما. يدور الحديث عن فرانشيسكا باروخ، التي لا يعرفها معظم الإسرائيليين، ولكنهم يعرفون أعمالها.
وُلِدت باروخ في هامبورغ، ألمانيا، عام 1901. درست التصميم الجرافيكي وفن الخط في ألمانيا، وأصبحت مصممة مشهورة وناجحة. عملت في الحكومة الألمانية، من بين أماكن عمل أخرى، قبل وصول النازيين إلى الحكم.
في المرة الأولى التي شاهدت فيها الخط العبري، كانت مفتونة به لهذا بدأت بالبحث في هذا المجال وابتكار تصاميم جديدة للأحرف القديمة، والتي حتى ذلك الوقت كانت ثابتة طيلة آلاف السنين. حدث كل هذا، رغم أنها لم تكن تتقن اللغة العبرية جيدا طيلة حياتها.
بعد أن وصل الحزب النازي إلى سدة الحكم في ألمانيا، فهمت باروخ أن بقاءها في ألمانيا يشكل خطرا عليها بسبب هويتها اليهودية، لهذا قررت الانتقال وحدها إلى القدس في عام 1933. وقد تبين أن اختيارها كان حكيما جدا، لأن النازيين قتلوا أفراد أسرتها بعد فترة وجيزة من ذلك، أثناء الحرب العالمية الثانية.
رغم عملها الناجح في الماضي في مجال التصميم، في السنوات الأولى من حياتها في القدس، تمكنت من كسب رزقها بصعوبة. ولكنها تلقت بعد ذلك أول اقتراح عمل مهم – إعادة تصميم شعار صحيفة “هآرتس”، وهي الصحيفة الأقدم في إسرائيل. وما زال الشعار الذي صممته باروخ يتصدر الصفحة الرئيسية في الصحيفة حتى يومنا هذا، رغم أنه مر ما يقرب 90 عاما على تصميمه.
ثم صممت باروخ الخط الذي استُخدم في الصحيفة وفي الكتب التي أصدرتها، ومهدت الطريق لتشكيل الرموز الجديدة لدولة إسرائيل الصغيرة – الأوراق النقدية، الطوابع البريدية، أطلس دولة إسرائيل الأول، الرمز الرسمي لمدينة القدس، وحتى جواز السفر الإسرائيلي.
قصة تصميم جواز السفر الإسرائيلي مثيرة للاهتمام بشكل خاص. كشفت باروخ في مقابلة معها أن وزير الخارجية الإسرائيلي الأول، موشيه شاريت، طرق بابها ليلا وطلب منها تصميم جواز السفر حتى صباح اليوم التالي. وورد في المقابلة القديمة معها أنه: “في أحد الليالي في عام 1948، طرق بابها شخصا غريبا”. “فقد كان رجلا قصير القامة وذا شارب أسود. ودون أن يعرّف عن نفسه، عرض عليها الغلاف الجديد لجواز السفر الإسرائيلي الحديث قائلا: “عليّ أن أسافر إلى خارج البلاد غدا، ولن أحمل جواز السفر المصمم بشكل سيئ للغاية. الرجاء أن ترسمي مجددا الخطوط الأربعة التي ستُطبع باللون الذهبي على الغلاف. لقد عارضت فرانشيسكا ذلك الطلب موضحة أن العمل الصغير أيضا يتطلب وقتا للتحضير والتجارب، ولكنها أنهت العمل في النهاية. وأوضحت أنها لم تفهم كيف يمكن أن يصبح عملها مطبوعا باللون الذهبي في صباح اليوم التالي، ولكن شاريت وعدها أنه سيهتم بإنجاز ذلك بنفسه. وأخيرا وقّع اسمه على ورقة تصادق على عملها، وهكذا اكتشفت أنه كان موشيه شاريت”.
يقول غيل فيسبلاي، الباحث في تاريخ الأدب العبري: “هذه الحقيقة مُدهشة بحد ذاتها، لأن المرأة التي أثرت كثيرا في الأحرف العبرية لم تكن تتقن هذه اللغة جيدا”، وأضاف: “كانت باروخ شخصية استثنائية وفريدة من نوعها كفنانة، وهي من أكبر الفنانين الجرافيكيين الموهوبين الكبار في إسرائيل”. وقال المحاضر الإسرائيلي عوديد عيزر لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية إن “باروخ كانت الامرأة الأولى في هذا المجال في إسرائيل وما زالت”.
إنها لم تتزوج أبدا ولم تُنجب أطفالا. حتى يومها الأخير، عاشت وحدها في شقة صغيرة ومتواضعة ولم تجمع المال. تصدر التصميم الجرافيتي اهتمامها وسلم أولوياتها، وفق أقوال الباحثين الذين تحدثوا مع أصدقائها.
ولكن رغم الإطراء الذي حصلت عليه فرانشيسكا من الباحثين والخبراء، وأعمالها الشهيرة، ما زال الكثير من الإسرائيليين لا يعرفها حتى يومنا هذا. لا أحد يعرف قصة حياتها الكاملة أو القائمة الكاملة للرموز التي رسمتها، وذلك لأنها لم توقّع على معظم أعمالها ولأنها لم تحظَ بتقديرها. ربما يكون تأثيرها على الرموز الإسرائيلية أكبر بكثير مما نعلمه، ومن الممكن أن هناك رموز إسرائيلية أخرى قد رسمتها، ولا أحد يعرف ذلك.