يعلم رؤساء الحكومات وأعضاء الكنيست الإسرائيليين أنّ قوّتهم، رغم أنها كبيرة، فهي محدودة. وضعت الديموقراطية الإسرائيلية، التي تفخر بنظام من “الضوابط والتوازنات”، أمام السلطة التنفيذيّة والسلطة التشريعية ذراعا سلطويّا آخر، والذي يبدو أحيانا هو الأقوى من الجميع: السلطة القضائية.
تُعرف المحكمة العُليا في إسرائيل كواحدة من الأقوى في العالم. قاد هذا التصور أهرون باراك، رئيس المحكمة العُليا بين عامي 1995 – 2006، والذي صيغ بعده شعار “كل شيء قابل للتقاضي”. وسّع باراك حدود المحكمة العُليا الإسرائيلية كثيرًا، رسّخ حقّ المحكمة في إلغاء قوانين غير دستورية في الكنيست، وحوّل المحكمة العُليا إلى ما هي عليه اليوم إلى حدّ كبير.
في مرات عديدة، وقفت المحكمة في طريق الحكومة والكنيست، ومنعتهما من اتخاذ خطوات غير دستورية. هكذا حظرت نية الكنيست بإقامة سجن بإدارة القطاع الخاص، إضافة إلى أنها ألغت أيضا الإجراء الذي تم بموجبه تمديد اعتقال المشتبه بهم في غيابهم، وحُظر على الدولة إعفاء المواطنين المتديّنين من التجنيد للجيش وكما ألغيَ مرّتين القانون الذي سمح بسجن المتسللين من إفريقيا.
وكان رئيس الحكومة الراحل إسحاق رابين هو من صاغ عبارة “دون المحكمة العُليا ودون بتسيلم” – واصفًا الحالة التي يمكن فيها للحكومة العمل دون قيود، مثل التقيد الذي تفرضه عليها المحكمة العُليا ومنظمات حقوق الإنسان مثل “بتسيلم”. ومثل رابين علم رؤساء الحكومة بعده أنّ الكلمة الفصل هي للمحكمة العُليا.
الكثيرين في إسرائيل، وخصوصا في أوساط اليمين، يعتبرون المحكمة العُليا مجموعة متعجرفة ومنقطعة عن الشعب
ولكن الكثيرين في إسرائيل، وخصوصا في أوساط اليمين، يعتبرون المحكمة العُليا مجموعة متعجرفة ومنقطعة عن الشعب، إذ تقضي دون أن تأخذ في الحسبان الحاجيات الحقيقية للطبقات الضعيفة. النقاش حول عدم شرعية الأحكام آخذ بالازدياد في السنة الأخيرة في أعقاب إلغاء قانون منع التسلُّل، الذي حظر السجن الطويل للمتسلّلين.
كانت الانتقادات الأساسية هي أنّ القضاة قد نصّبوا أنفسهم حكّاما، بدلا من الحكومة التي تم انتخابها انتخابا ديمقراطيًّا. والادعاء هو أنّ حكومة اليمين في إسرائيل لا تستطيع في الحقيقة تطبيق سياساتها، التي تتضمّن النضال بلا هوادة وسجن المتسللين الأفارقة والبناء غير المراقب في الضفة الغربية، لأنّ المحكمة تحدّ من خطواتها، ولا تسمح لها بالسيطرة.
يعتقد مؤيدو اليمين في إسرائيل أنّ القضاة يمثّلون جناحا سلطويا لأحزاب اليسار، التي فشلت في الانتخابات ولكنها مستمرة في الإمساك بالحكم بواسطة المحكمة العليا. بل وصف إعلامي يميني يُدعى أريك غرينشطاين هذه الظاهرة بـ “حكومة المحكمة”. واتّهم إعلامي آخر يُدعى أوهاد شكيت المحكمة بـ “الفاشية اليسارية”.
لم يتأخر أيضًا أعضاء الكنيست الإسرائيليون كثيرا عن الصحفيين الذين هاجموا المحكمة العليا. في الأسبوع الماضي فقط قال عضو الكنيست اليميني موطي يوغيف إنه يجب “الصعود بجرافة” على المحكمة، في أعقاب حكم ألزم بهدم مبنى غير قانوني تم بناؤه في إحدى المستوطنات. بل قالت الوزيرة ميري ريغيف هي أيضًا إنّ حكم المحكمة “منقطع عن الشعب”، وقال عضو الكنيست يريف ليفين من حزب الليكود أيضًا إنّ المحكمة “تهدّد وجود إسرائيل”.
على ضوء ذلك، تم اتخاذ مبادرات عديدة في السنوات الماضية من أجل الحدّ من خطوات المحكمة العليا، وتقييد مجالات تدخّل القضاة أو زيادة قوة السياسيين في مسألة تعيين القضاة. وعلى الرغم من ذلك، بقيت قوة المحكمة العليا حتى الآن كبيرة.
ومع ذلك، ففي إحدى القضايا الحاسمة في دولة إسرائيل، وهي قضية الصراع من الفلسطينيين، لم يوفّر أحد انتقاداته تجاه المحكمة العليا. يعتقد اليمين كما ذُكر آنفًا أنّ المحكمة تخدم مصالح اليسار، وتسعى لتقويض سياسات الحكومة، وخصوصا في كل ما يتعلق بالبناء في المستوطنات. ولكن اليسار أيضًا يعتقد أنّ المحكمة العليا لا تقوم بما يكفي من أجل الحدّ من أعمال إسرائيل في الضفة الغربية.
قبلت المحكمة الادعاء أنّ الجدار نفسه هو وسيلة أمنية مشروعة لدولة إسرائيل
وجسّدت قضية جدار الفصل الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية ذلك أكثر من كل شيء. من جهة، انتقد اليمين بشدّة أحكاما للمحكمة العليا بحسبها فإنّه ينبغي تغيير مسار الجدار، لأنّه يضرّ بالسكان المحليّين الذين بنيَ الجدار على أراضيهم. تضمن أحد الأحكام في هذا الشأن للقاضي باراك أيضًا انتقادات شديدة لإسرائيل، التي حاولت استخدام حجّة الأمن من أجل توسيع المستوطنات.
ومع ذلك، قبلت المحكمة الادعاء أنّ الجدار نفسه هو وسيلة أمنية مشروعة لدولة إسرائيل، ممّا أثار غضب الفلسطينيين واليساريين. بالإضافة إلى ذلك، يدّعي اليسار، بأنّ المحكمة العليا لم تلغِ أبدا هدم منازل العائلات الفلسطينية، أو تسمح بالبؤر الاستيطانية غير القانونية.