في نهاية شهر حزيران هذا العام هزت الأنباء حول انتحار أم إسرائيلية أسس المجتمع الإسرائيلي. ظاهريا يدور الحديث عن أمّ، عمرها نحو 50 عاما، ارتدّت عن دينها، وقررت وضع حدّ لحياتها بعد أن فشلت في التواصل مع بناتها اللواتي بقين متديّنات، وكان ينبغي أن تكون قصتها شخصية.
بدأت هذه القصة المأساوية جدّا قبل نحو ثماني سنوات عندما غادرت امرأة اسمها إستي فاينشطاين، أم لسبع بنات، بشكل مفاجئ المجتمع المتديّن – الحاريدي، والذي تربّت فيه – “حسيدية غور” وارتدّت عن دينها.
قطعت فاينشطاين علاقتها مع بناتها الستّ اللواتي كنّ قد أصبحن بالغات وبقين في الحسيدوت، وبقيت على علاقة قريبة مع ابنة واحدة فقط – كانت قد ارتدّت عن دينها هي أيضًا، كما فعلت والدتها. كانت هذه الخطوة، ولا سيّما الانقطاع الأسري، صعبة جدا لفاينشطاين التي بدأت تحاضر في مختلف المناسبات حول حياتها، وفي المقابل، ألّفت كتابا تحدثت فيه عن قصّة حياتها في الحسيدوت، علاقتها المعقّدة مع زوجها، الابتعاد عن الدين و “الانتهاكات” في العلاقات الجنسية التي ارتبكها الزوج محاولة لتحسين العلاقة بينهما، محاولة الانتحار، المكوث في مستشفى الأمراض النفسية ولاحقا – انقطاع علاقتها مع بناتها.
مع وفاتها، نُشر الكتاب في مواقع التواصل الاجتماعي وأثار منذ ذلك الحين عاصفة في المجتمع الحاريدي، في أعقاب الكشف عن القوانين المعمول بها فيه والرقابة الصارمة على العلاقات الجنسية في حسيدية غور.
“حسيدية غور”: حسيدية ألترا- حاريدية
نوضح للأشخاص الذين لا يعرفون العالم الحاريدي في إسرائيل، أن مجمتع “حسيدية غور” يعتبر المجتمع الأكثر سرية، تديّنا، الأكبر، والأكثر توحّدا في إسرائيل. كانت بداية هذا المجتمع الديني في الأساس في بولندا بمدينة قريبة من وارسو. انتقل مركز نشاط الحسيدية من بولندا إلى إسرائيل مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، بعد أن نجا أتباع الحسيدية من كارثة الهولوكوست الصعبة، التي أنزلها بهم الرايخ الثالث.
تتميّز حسيدية غور اليوم بتأثير سياسي، إعلامي، وتربوي كبير في إسرائيل. يُعرف أتباع حسيدية غور بالقوانين والعادات الاجتماعية الصارمة للغاية. بدءًا من الأنظمة والقوانين في شؤون المناسبات السعيدة، السكن، الزوجية وصولا إلى شؤون الفصل بين كلا الجنسين والحياة الجنسية.
هناك مميزات أخرى لهذه الحسيدية وهي الثقة والانضباط التنظيمي للحسيديم لأوامر زعيم الحسيدية الشبيهة “بالأسلوب العسكري”، النشاط العام الواسع، المؤسسات الاجتماعية الكثيرة، والرفاهية الاقتصادية نسبيا. القيمة التي تقود الحسيدية هي قيمة “القداسة”، والتي تعني التعفف الجنسي.
الكتاب الذي فتح صندوق باندورا وكشف عن كل شيء
قصة إستي فاينشطاين، لا تكّف عن زعزعة الوسط الحاريدي. هزّ الكتاب الذي كتبته ورُفع إلى الإنترنت بعد وفاتها – المجتمع الحاريدي، زعزعه، وأثار طلبا ثاقبا لمراجعة النفس حول النظرة إلى المرتدّين في هذا الوسط – إلى جانب النقاش الداخلي حول ما حدث في هذه الحسيدية.
فُتح صندوق باندورا فوق الحاسيدية وسُمعت قصص صعبة حول ما يحدث في هذا المجتمع: عن الزهد والتعفف الجنسي المتطرّف، السيطرة بيد من حديد على الناس حتى في التفاصيل الصغيرة في حياتهم، تناول أقراص معدّة لعلاج الأمراض النفسية – ولا سيّما حزن كثير.
تروي إستي فاينشطاين في كتابها، الذي تركته كإرث للشعب الإسرائيلي، قصة حياتها المأساوية. في سنّ الثامنة عشرة تزوّجت حسيد غور وانتقلت للسكن في المدينة الجنوبية، أشدود. ولاحقا أنجبت بناتها. بعد مرور عدة سنوات انتقلت الأسرة للعيش في القدس. قبل نحو ثماني سنوات ارتدّت عن دينها، ومن ثم تطلقت وانتقلت للعيش مع شريكها. بقيت ابنتها الثالثة، التي ارتدّت عن دينها أيضا، على علاقة معها فقط. قطعت بناتها الأخريات، كمعظم عائلتها الموسعة، علاقتهن معها، مما عرّضها إلى ضائقة شديدة. كانت ناشطة في جمعية تُقدّم العون للمرتدين عن الدين وساعدت الناس كثيرا، ورغم أنّها تعتبر قوية، لم تصمد نفسها الهشّة أمام قطع علاقتها مع بناتها وأحفادها.
يمكننا أن نفهم من خلال قراءة مقاطع من كتابها الصعوبة الكبيرة التي تواجهها النساء الحاريديات. ربما تكون قصتها شخصية، ولكنها في الواقع قصة الكثير من الأسر في حسيدية غور. تستخدم روت في كتابها اسم “داسي” وتمكث في المستشفى بعد محاولة الانتحار الفاشلة.
“رفعتُ ببطء المنديل عن عينيّ وقلت للمرة الأولى في حياتي، في قرارة نفسي، ولكل مَن حولي: “لا أريد أن أكون حاريدية بعد”! أثأرت هذه الكلمات التي تفوّهت بها الأدرينالين في الدماغ، انطلاقا من الشعور بالقوة، أنّ هذه هي الجملة الصحيحة! نهضتُ من سريري قليلا وأكملت صراخي مرارا وتكرارا، كانت الجملة الوحيدة التي أثارت فيّ شعور التماهي معها في تلك اللحظة: “أريد أن أكون علمانية! لقد بقيت على قيد، وأريد أن أكون علمانية! لا أريد هذا الدين الملعون. لا أريد الاستمرار في عيش حياة الكذب. لا أريد هذه الطائفة الدينية!”.
حدوث أمور أعظم من مجرّد السماح بإقامة علاقة جنسية مرّتين شهريّا فقط
انتظرت فاينشطاين لحظة زواجها بعد أن تعرّفت إلى زوجها المسقتبلي، وهو طالب في الحسيدوت. ولكن عانت من إهانات في حياتها الزوجية أيضا حيث إنّ زوجها لم يذكر حتى اسمها، وإنما كان يناديها قائلا “أنتِ” أو أمرها قائلا: “اذهبي” أو “تعالي”، الأمر الذي آذاها جدا وفاقم العلاقات الزوجية بين كلا الزوجين.
“في ذلك الوقت لم أكن أعلم ما معنى كلمة رومانسية، ولكن شعرتُ بقوة أنّني كنت أريد سماع زوجي ينطق اسمي. كنت أسير خلفه في المنزل، أحيانا، كالظلّ وأتخيّل كيف سيلتفت فجأة ويقول هذه الكلمة العجيبة، أو العار والإهانة عندما طلبت منه ممارسة الجنس لأكثر من مرّتين في الشهر كما حدد ذلك الحاخام. نزل إلى الشارع للاتصال عبر الهاتف العمومي ليسأل الحاخام، ومن ثم عاد بعد نحو ساعتين معربا عن إجابة سلبية. توقف للحظة عند مدخل غرفة الجلوس، لم ينظر حتى إليّ مباشرة، وأطلق في فضاء الغرفة جملة كانت تتراود في ذهني لسنوات طويلة بعد ذلك، وحتى اليوم: “قال الحاخام إنه لا ينبغي إضافة أيام زيادة على ما قد قرّره لممارسة العلاقة الجنسية، أي مرتين في الشهر وقد كنا مارسنها مرّتين هذا الشهر”! لذلك فقد قال الحاخام إن علينا أن نكتفي بذلك أثناء هذا الشهر، وأضاف آمرًا، عليك أن تقبل كلامي، وسيكون هذا حسن! وإنْ لم تقبلي – فسأنام في غرفة الجلوس، وإنْ كان هذا أيضًا لا يساعد وبقيتِ مصرّة على رغبتك، فقد قضى الحاخام أن أنام في الخارج!. ليلة سعيدة!”، أنهى كأب يأمر ابنه بالذهاب إلى النوم فورا لأنّ الوقت كان متأخرا (…). دخل إلى غرفة النوم ونام فورا وأما أنا فقضيتُ الليلة بالبكاء والنحيب الرهيب”.
ويشكل كل ذلك جزءا من القوانين: إذا كان الفقه اليهوي يطلب من الزوجين التعامل عن بعد لأسبوعين كل شهر، فإنّ أتباع حسيدية غور يطبّقون هذا النظام طوال العمر وفي كل الحالات. فعلى سبيل المثال لا يعطي الرجل لزوجته أغراضا عبر النقل من اليد إلى اليد مباشرة، ولا يجلس كلاهما على نفس المقعد.
ومن بين القوانين هناك أيضًا: تقييد شديد على عدد المرات التي يجوز فيها ممارسة علاقات جنسية في الشهر (مرتين فقط كما قالت فاينشطاين في كتابها)، حظر أية ملامسة بين الزوج والمرأة (بما في ذلك لمسات الحنان)، قضاء فترة طويلة جدّا من التعفف الجنسي بعد كل ولادة، بل والحرص على عدم مناداة النساء باسمهنّ الشخصي.
ولا يمكن العثور على هذه الأنظمة في وثيقة رسمية للحسيدية. يتم الهمس بها من “مرشد” في أذني الزوجين الشابين قبل الزواج وبعده. تأتي الرقابة بصورة “المرشدين” الذين يوجّهون الزوجين حول طرق التصرّف “المناسبة” في الأنظمة الحسيدية، حيث إنّ كل تجاوز من أحد الزوجين – يتم الإبلاغ عنه وعلاجه من خلال المرشد. في الواقع، فإنّ كل التواصل بين الزوجين في الفترة الأولى من الحياة الزوجية يجري بواسطة ذلك “المرشد” الذي يوجّه الزوجين حول كيفية التصرّف، وكيفية الاستجابة لكلّ طلب أو توجّه.
المرأة هي أداة لإنجاب الأطفال
تحدّثت فاينشطاين بصراحة في كتابها عن الحياة الزوجية في الحسيدوت التي تسير وفق نظام صارم يعمل على قمع الرغبة الجنسية:
” لايمارس حسيدي غور العلاقات الجنسية في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، لأن الحاخامات يوضحون أن ذلك ليس صحّيا للجنين. يقرّر الحاخام عدد المرات التي تتم فيها ممارسة الجنس والأوقات… لا يكفي أنّه طوال فترة الدورة الشهرية يجب التقليل قدر الإمكان من الحديث مع الزوج، يحظر على الزوج النظر إليه في عينيه مباشرة بنظرات قد تثير لديه شهوة لـ “أمور محرّمة” ناهيك عن أنها قد تبدو “جميلة” في محيطه… يجب عليها توخي الحذر جدا من ألا تتجمّل أمام زوجها في الفترة التي يكونان فيها “محرّمين على بعضهما البعض”، أي أثناء الدورة الشهرية وطيلة أسبوعين حتى يمرّ أسبوع الدورة الشهرية وأسبوع آخر تفحص فيه المرأة إذا انتهى الطمث لديها مستخدمة قطعة قماش بيضاء تدفعها إلى داخل المهبل بعد أن تنتهي الدورة، تبقيها فيه نحو 40 دقيقة، بدءا من قبل غروب الشمس وحتى ما بعد ظهور النجوم ومن ثم تفحص إذا كانت القطعة بيضاء نقية كالثلج وتتأكد من أنه لم يبقَ في المهبل، معاذ الله، أثر من دم…”.
يبدو أن اللحظات السعيدة التي عاشتها فاينشطاين هي عندما أصبحت حاملا وأنجبت بناتها. تتحدث في الكتاب عن مكوثها في المستشفى في أعقاب محاولة انتحار وعن حديثها مع الطبيبة النفسية حول ضائقتها. توضح لها أن بناتها هن أفضل شيء في حياتها “بناتي رائعات، لم أنسهن ولن أنساهن للحظة، كل ما فعلت كان لصالحهن فقط. ظننت أن الأمور تتحسن مع مرور الوقت، ولكن السنين تمرّ ولا تنجح في تحسين الوضع وإيقاف الألم”.
تناول أقراص معدّة لعلاج الأمراض النفسية
سُمعت ادعاءات خطيرة ضدّ الحسيدوت في السنوات الأخيرة، يتعلق أبرزها بالادعاءات حول الاستخدام غير المراقب للأقراص المعدّة لعلاج الأمراض النفسية، ولا سيما لعلاج الأمراض النفسية الخطيرة جدا، وذلك فقط من أجل قمع الرغبة الجنسية في أوساط الأشخاص الذين لا يستطيعون الالتزام بالزهد والتعفف الجنسي المتبع في الحسيدوت.
تحدث أتباع الحسيدية الذين ارتدّوا عن دينهم، كثيرا إلى وسائل الإعلام موضحين أن الحديث يدور عن واقع جديد، لا تزيد مدتة عن خمسة عشر عاما الأخيرة وأنّه سرّي جدا. وأوضحوا أن هناك اتجاه خطير من الحاخامات نحو توفير حلّ لم يكن معمولا به في الماضي، للأشخاص الذين لا يستيطعون التغلّب على انتهاكاتهم.
وتُنهي فاينشطاين كتابها موضحة أن حياتها تنقسم إلى قسمي حياة – حياة امرأة مستقلّة كانت قد اختارتها، و “حياة أمومتي، المؤلمة، المهشّمة إلى شظايا، حياة جريحة ومصابة”. بل تصف فاينشطاين اغتراب بناتها وعدم استعدادهن لتجديد علاقتهن معها: “ظننت أن الأمور تتحسن مع مرور الوقت، ولكن تمر السنين ولا تنجح في معالجة الأمور وإيقاف الألم”.