منذ عقود طويلة يحاول العلم العثور على أسباب المثلية الجنسية. بدأت دراسة المثلية الجنسية من القرن التاسع عشر، بشكل مزعج بما فيه الكفاية، عندما تم الكشف عن “مرض نفسي جديد” وظنّوا إنّه يحتاج إلى أن يُدرس ككلّ مرض آخر من أجل التوصل إلى “العلاج”. ولكن للأسف الشديد، ففي مجتمعات دينية معينة بقي التعامل مع الظاهرة مماثلا حتى اليوم.
ومع ذلك، تطرح نتائج دراسة حديثة من جديد النقاش حول أسباب المثلية الجنسية، ومن شأنها أن تبدّد الآراء النمطية ووصمات العار ضدّ المثليّين.
“النهج الوراثي“
تعرضُ الدراسة، التي أجريتْ في الولايات المتحدة، أدلة إضافية على وجود أساس وراثي للمثلية الجنسية. وجد الباحثون الذين درسوا مئات الإخوة المثليين تشابها في منطقتين على اثنين من الكروموسومات، والتي تضيف بحسبهم مستوى آخر للشواهد التي تدلّ على أنّ الميل الجنسي هو أمر وراثي. تم نشر الدراسة في مجلة Psychological Medicine. درس الباحثون في جامعة إلينوي 800 أخ من ذوي الميول الجنسية المثلية، وأخذوا منهم عينات من الحمض النووي DNA من خلال الدم واللعاب.
وظهر من خلال المسح تشابه في المنطقة التي على كروموسوم X وعلى كروموسوم 8 لدى المشاركين، ممّا لم يتم العثور عليه في المجتمعات المغايرة. كروموسوم X هو واحد من كروموسومَين للجنس موجودين لدى الرجل (كروموسوم X ينتقل من الأم، بينما ينقل الأب الكروموسوم Y). وهكذا، تعزّز الدراسة الرأي القائل إنّ الجينات تؤثر على احتمالات أن يكون الشخص مثليّا، وأنّ هذه صفة تنتقل بالوراثة.
كما أنّ الإنسان لا يختار جيناته ولا يستطيع أن يختار بأن يُولد مع عيون خضراء أم لا، فهكذا أيضا لا يختار ميوله الجنسية.
استندت دراسات أخرى أجريت في المجال، تتبنى هي أيضا “النهج الوراثي”، بشكل أساسيّ على فحص الأزواج التوائم المتماثلة وغير المتماثلة، وكشفت عن تطابق كبير في ميول التوائم المتماثلة. وُجد أنّ احتمال أن يكون الأخ التوأم مثليّا هو أيضًا أعلى بكثير من احتمال أن يكون الأخ غير التوأم مثليّا. أي إنّ الجينات المماثلة لعبت هنا دورا، ولم يكن للشخص نفسه إمكانية للتأثير على ميوله.
وفي نهاية المطاف، استنادا إلى هذه الدراسات، فإنّ الاستنتاج الواضح هو: كما أنّ الإنسان لا يختار جيناته ولا يستطيع أن يختار بأن يُولد مع عيون خضراء أم لا، فهكذا أيضا لا يختار ميوله الجنسية.
من الأم للابن
منذ عام 1993 قال علماء أمريكيون إنّ المثلية الجنسية الذكورية تنتقل من الأم لابنها، بعد العثور على أدلة قوية لدى تحليل العديد من شجرة العائلة. ومع ذلك، فليس من الواضح إذا ما كان مصدر نقل هذه الصفات هو في الجينات الموجودة في كروموسوم X الذي تنقله كل أم لابنها، أم نتيجة تأثيرات مختلفة على الجنين في فترة الحمل، مثل الهورمونات على سبيل المثال.
يؤيّد هذا الاتجاه بعض علماء الأعصاب، الذين يقولون إنّهم نجحوا في الإثبات أنّ بُنية الدماغ لدى المثليين مختلفة عن تلك التي لدى متبايني الجنس، وفي الواقع يبدأ كلّ شيء من هذا الاختلاف. فحصت إحدى الدراسات المعروفة في المجال الفروق في بُنية الدماغ لدى المثليين والمغايرين الذين تمّ فحصهم بعد وفاتهم. وقد وُجد أنّ هناك فرق واضح في عضو صغير يصل بين جزئين من الدماغ لدى الذكور المغايرين والذكور المثليين، الذين كان هذا العضو لديهم مماثلا لشكله لدى النساء. ومع ذلك، فقد حظيت هذه الدراسة بانتقادات شديدة تتعلّق بحجم العيّنة التي اختارتها (عدد صغير جدّا ممّن تمّ فحصهم) وأيضا بحقيقة أنّ أولئك الذين تمّ فحصهم واستندت الدراسة إليهم كانوا أشخاصا متوفّين، حيث توفّي معظم المفحوصين المثليين بمرض الإيدز؛ وهو فيروس يؤثّر على الدماغ ومن ثم يغيّر بنيته.
أظهرت دراسات أخرى تم إجراؤها على الفئران، أنّ حقن الهورمون الذكري (التستوستيرون) بجنين أنثى يؤدي إلى سلوك ذكوري، وعلى العكس؛ فإنّ إخماد التستوستيرون لدى الأجنّة أدّى إلى سلوك أنثوي. الاستنتاج المطلوب بالنسبة للبشر هو أنّه عندما يتم تعريض الأجنّة في الرحم لمستوى معيّن من الهورمونات في الفترة الجنينية فإنّ ذلك يؤثّر على منطقة معيّنة في الدماغ هي التي تحدّد السلوك الجنسي للشخص.
تأثيرات بيئية
يعارض الكثير من علماء النفس هذه الأنواع من الأبحاث، وخصوصا لزعمهم بأنّنا نعيش في مجتمع فيه انقسام بين أشخاص ينجذبون لأبناء جنسهم وبين أشخاص ينجذبون لأبناء الجنس المختلف، ولكننا في الواقع نتجاهل أنّ غالبية الناس يعيشون في مكان ما في الوسط، ويمرّون طوال حياتهم بتجارب لا تتلاءم مع أي فئة بشكل حصري.
“من حقّ الإنسان أن يكون مثليّا بغضّ النظر عمّا إذا وُلد هكذا أو جعلوه هكذا”
على سبيل المثال، إذا كان لدى امرأة معينة تجربة جنسية مع امرأة أخرى، فهذا لا يقول بأنّها مثلية. مثال آخر وهو الأشخاص الذين عاشوا لسنوات طويلة كمغايرين، وفي سنّ كبيرة جدّا شعروا فجأة بالانجذاب للذكور، تأثروا وطوّروا علاقات مع الرجال. من الواضح أنّ جيناتهم لم تتغيّر، ولا النشاط الهورموني أيضًا، ولكن كان التغيير على مستوى التفكير والوعي.
في نهاية المطاف، من الواضح اليوم أنّ هناك عنصر وراثي واضح في المثلية الجنسية. ومع ذلك، من الممكن جدا أن تكون هناك تأثيرات بيئية أيضًا، دماغية أو هورمونية أضيفت إليه. وفي كلتا الحالتين، فإنّه من الواضح تماما أنّ هذا لا ينبع من الاختيار (هل يختار الرجل المغاير لمن ينجذب ولمن لا؟)، وبالتأكيد ليس مرضا يمكن علاجه. إنّ المرض الحقيقي موجود كما يبدو في المجتمعات التي تجد صعوبة كبيرة في تقبّل الظاهرة.
ولكن رغم أنّ مثل هذه الدراسات قد تساهم في إلغاء التنميط ضدّ المثليّين، فإنّ الكثيرين يعارضون وجودهم ذاته: “الانشغال بالبحث عن “مذنب” من أجل تعليق تفسير المثلية الجنسية به، ليس فقط أمرا غير مجدٍ، ولكنّه خطير أيضًا”، كما قيل. “إذا عثر الباحثون على جين من أي نوع يؤدي إلى المثلية الجنسية، يمكن للآباء غدا أن يرغبوا بالإجهاض بسبب هذا الجين فقط… من حقّ الإنسان أن يكون مثليّا بغضّ النظر عمّا إذا وُلد هكذا أو جعلوه هكذا”.