هناك أهمية خاصّة لحجّ البابا إلى فلسطين (أرض إسرائيل) ويعود جزء منها إلى المخزون التاريخي المشبع بالصدامات بين المسيحية عمومًا، والكاثوليكيّة خصوصًا، وبين اليهود. ثمة تاريخ طويل من الصراعات، الكراهية بل والاضطهاد وسفك الدماء بين اليهود والمسيحيين.
بعد ألفي عام من الكراهية الشديدة، بدأت مؤخرًا نقطة تحوّل مهمّة في العلاقات. في فترة يسوع المسيح، بعد صلبه فورًا، بدأت الاتهامات تجاه عدد من اليهود، الذين “خانوا” وأدوا إلى صلب المسيح الناصري. خلال مئات السنين، وبدعم علني من الفاتيكان، استمرّ التحريض والكراهية ضدّ اليهود، والاضطهاد، بدءًا بالحملات الصليبية للأراضي المقدّسة والتي قُتل خلالها آلاف اليهود في الطريق، وصولا إلى المذابح الفظيعة التي حدثت ليهود أوروبا في العصر الحديث.
ومثلما عارض الفاتيكان اليهودية، فقد عارض كذلك فكرة الدولة اليهودية. في أواخر القرن التاسع عشر، حين بدأت الفكرة الصهيونية بالانتشار في أوروبا، نشرت مجلّة كاثوليكية كبرى أنّ الكنيسة “لا يمكن أن تقبل قيام دولة يهودية في الأراضي المقدّسة، بحيث تكون عاصمتها القدس وتكون الأماكن المقدّسة خاضعة تحت سيّطرتها”. في عام 1904، التقى مؤسس الحركة الصهيونية، بنيامين زئيف هرتسل، مع البابا بيوس العاشر، أملا في كسب تأييده. رفض بيوس ذلك وقال إنّ الكنيسة لا يمكنها أن تعترف بالشعب اليهودي وطموحه في فلسطين (أرض إسرائيل) لأنّ اليهود لم يعترفوا بالمسيح.
وخلال العقود الأربعة التالية (والتي جرت خلالها أيضًا حربان عالميّتان) ظلّ موقف الفاتيكان متّسقًا ضدّ الحركة الصهيونية. في الحرب العالمية الثانية وخلال الهولوكوست، اختار الفاتيكان الصمت، رغم أنّ أدلة كثيرة تُظهر أنّ البابا بيوس الثاني عشر كان على علم بالتأكيد بإبادة اليهود، ولكنه اختار تجاهل ذلك، وقد أعطى في صمته موافقة الفاتيكان على ذلك.
بعد سنوات من ذلك، عام 1998، نشر البابا وثيقة تدعى “نحن نتذكّر: تأمّلات حول الهولوكوست”، وهي وثيقة اعتذارية، تعرب عن الأسف العميق إزاء موقف المؤمنين في كلّ العصور من اليهود، ولكنّه امتنع عن اتّخاذ أيّة مسؤولية في تمهيد الأرضية لمعاداة السامية النازية ولِما حدث في المحرقة.
ومع ذلك، فقد قال الأب بيير باتيستا بيتسابالا، الذي كان رئيس الرهبنة الفرنسيسكانية في الشرق الأوسط، عام 2006: “فشلت الكنيسة في تشكيل ضمائر المؤمنين لأنّ عددًا قليلا جدّا منهم اختار معارضة الأعمال الإجرامية للنازيين ضدّ اليهود”. وقد تحدّث عن الخطيئة والتي عرّفها بأنّها: “فشل أجزاء كبيرة من التقاليد المسيحية” في التعامل مع صورة اليهودية واليهود، وهو فشل – حسب تعبيره – أدى إلى تمهيد الأرضية لمعاداة السامية الحديثة.
ونستطيع اليوم أن نقول إنّه في الخمسين سنة الأخيرة حدث انقلاب كبير في علاقة الفاتيكان باليهود وإسرائيل. يمكننا أن نشير إلى نقطةُ التحوّل في عام 1965، في التصريح الشهير “Nostra Aetate” (باللاتينية: “في أيامنا الحاضرة”) والذي خرجت فيه الكنيسة الكاثوليكية ببرنامج جادّ ومستمرّ من الحوار بين الأديان مع ممثّلي الشعب اليهودي (وكذلك مع أديان أخرى، مثل الإسلام، البوذية والهندوسية).
وفي سلسلة من الوثائق المهمة التي اعتمدتها الكنيسة منذ سنوات الستينات وحتى اليوم، تخلّت قيادة الكنيسة الكاثوليكية عن “الازدراء” تجاه اليهود، وقرّرت أنّ اليهود لم يكونوا مسؤولين، كشعب، عن موت المسيح، واعترفت بهم كـ “أخ بالغ”. في تصريحات متكرّرة، عادت الكنيسة لنبذ معاداة السامية، بل وقد تخلّت عن أجزاء واسعة من تعاليمها التي من الممكن أن تثير معاداة اليهودية والسامية.
في عام 1993، بعد 30 عامًا من الحوار، وصلت المصالحة بين اليهود والكاثوليكيين إلى ذروتها، حيث تمّ تأسيس علاقات دبلوماسيّة بين إسرائيل والفاتيكان بشكلٍ رسميّ. في “اتفاق أساسي بين الكرسي الرسولي ودولة إسرائيل” والذي تمّ التوقيع عليه في نفس العام، اعترفت الكنيسة بحقّ الشعب اليهودي في دولة خاصّة به “في وطنه القديم أرض إسرائيل”. وفي الوقت نفسه، اعترفت دولة إسرائيل رسميًّا بالفاتيكان، وبدأت عملية التطبيع مع الكنيسة.
بعد خمس سنوات من ذلك، في آذار 1998، نشرت الكنيسة تلك الوثيقة الشهيرة بخصوص الهولوكوست. تمّ استقبال الوثيقة في العالم اليهودي بشكل عامّ وإسرائيل بشكل خاصّ بمشاعر مختلطة. رغم عدّة مشاكل، كانت الرسالة العامّة في الوثيقة إيجابية. كان عنوان الفصل النهائي فيها هو “نتأمل سويّة بمستقبل مشترك”، وخرجت فيها قيادة الكنيسة بصوت يدعو المؤمنين إلى اتباع طريق الأسف: “مع نهاية الألفية، تودّ الكنيسة الكاثوليكية أن تعرب عن أسفها العميق لفشل أبنائها وبناتها في جميع الأجيال. هذا عمل من التوبة: كرجال الكنيسة، يرتكب الخطايا جميعنا، بحق جميع أبنائنا. تتوجه الكنيسة ببالغ الاحترام وبرأفة كبيرة إلى قضية الإبادة، المحرقة التي مرّت على الشعب اليهودي في الحرب العالمية الثانية. وليست هذه مجرّد كلمات، وإنّما هو التزام عميق”.
اعتُبر البابا السابق، يوحنا بولس الثاني، صديقًا للشعب اليهودي، فقد قام بالكثير من أجل التقريب بين الأديان وزار هو شخصيًّا إسرائيل، الأماكن المقدّسة ومتحف ياد فاشيم لذكرى ضحايا المحرقة. كما أنّه دخل التاريخ إذ كان البابا الأول الذي يزور الكنيس اليهودي في روما، حينها أيضًا سمّى اليهود “أخوتنا الكبار والأحبّاء”.
تمثّل زيارة البابا الحالي لإسرائيل علامة بارزة أخرى في عملية “التوبة” التي تقوم بها الكنيسة الكاثوليكية فيما يتعلّق باليهود وإسرائيل. رغم أنّ الطريق للقضاء على معاداة السامية وكراهية اليهود في أوروبا والعالم المسيحي بشكل عام لا يزال طويلا، يبدو أنّ البابا وضع تحدّيا كبيرًا في هذا المجال، ولكن قد نسمع أيضًا من فم البابا فرانسيس تصريحات فاتحة للطريق في هذا المجال، ربّما حتّى في الزيارة الحالية.