طوال قرون، كان يهود العراق من أكبر وأهمّ الجاليات اليهودية في العالم. في نهاية عشرينات القرن التاسع عشر، كان يعيش في العراق نحو 120 ألف يهودي، معظمهم في بغداد (نحو 90 ألفًا) والبصرة (نحو عشرة آلاف)، والباقي في الموصل، كركوك، السليمانية، أربيل، وبلدات وقرى صغيرة.
جالية انقرضت
شكّل اليهود نحو 2.5% من عدد السكّان عامّةً، ونحو 25% من سكّان العاصمة. في الثلاثينات، كان يهود العراق جالية منظّمة، مشاركة في الحياة الاقتصادية والسياسية في البلاد أكثر من باقي يهود المشرق. مع ذلك، غادر معظم اليهود العراق بعد الحرب العالمية الثانية، فوصل بعضهم إلى الصين مستقرّين في شنغهاي، أمّا البعض الآخَر فانتهى الأمر بهم في فلسطين، خصوصًا بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948. وانتهى الحال بالجالية العريقة وحضارة يهود العراق الممتدّة آلاف السنين إلى الانقراض والاضمحلال بشكل شبه كليّ.
فكيف جرى ذلك ولماذا؟ كانت نقطة التحوّل السلبية في وضع اليهود في تشرين الأول 1932، حين انتهى الانتداب البريطاني وأُعلن استقلال العراق، ولا سيّما بعد وفاة الملك فيصل الأول عام 1933. منذ موت فيصل حتى عام 1941، شهد العراق خمسة انقلابات عسكريّة. كانت الحركة الوطنية العراقية في مرحلة التبلوُر والتصاعُد، وتميّزت بكراهية الغرباء والأقليّات.
ممثليّة نازية في العراق
حصلت التحوّلات الداخلية في العراق بالتوازي مع صعود النازيين إلى سدّة الحكم في ألمانيا، تعاظُم الدعاية النازية في العراق، وتدهوُر العلاقات بين العرب واليهود في فلسطين. في تشرين الأول 1932، وصلَ بغداد المندوبُ الألماني د. فريتز غروبا، مستشرِق نجح في ملاءمة الدعاية النازية لآمال العراقيين.
تملّكت السفارة الألمانية صحيفة “العالم العربي”، فنُشرت فيها على أجزاء اعتبارًا من تشرين الأول 1933 الترجمة العربية لكتاب هتلر “كفاحي”، وكذلك موادّ دعائية تمدح الأنظمة الفاشيّة. دُعي مثقّفون وضبّاط في الجيش إلى زيارة ألمانيا كضيوف للحزب النازي. وبتأثير الأيديولوجيات الفاشية، أُسّست في العراق تنظيمات قوميّة متطرّفة.
في أيلول 1934، بدأ تمييز رسميّ ضدّ اليهود مع إقالة عشرات الموظفين اليهود من المؤسسات الحكومية. وواجه اليهود الذين أرادوا السفر إلى فلسطين صعوبات بيروقراطية، وطُلب منهم أن يودعوا 50 دينارًا حتّى عودتهم؛ وتزايد الضمان مع الوقت حتّى بلغ 3000 دينار. في شباط 1936، أُقيل نحو 300 موظّف يهودي، كثيرون منهم على مستويات رفيعة.
مع اندلاع الثورة العربية في فلسطين عام 1936، ساءت النظرة إلى اليهود، إلى درجة إلحاق الأذى بهم. وفي تشرين الأول 1939، وصل إلى بغداد مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني (الذي كان كارهًا لليهود وربطته صلات وثيقة بهتلر، كما هو معلوم).
منذ 1939، بات على جميع طلّاب المدارس الثانوية ومدرّسيهم الانضمام إلى “الفتوة”، تنظيم شبابي ربطته صلات وثيقة بالتنظيم الشبابي الألماني النازي، “هتلريوغند” (“شبيبة هتلر”)، حتّى إنّ التنظيمَين تبادلا زيارات الوفود.
اليهود يُمسون أهدافًا حيّة
في أيلول 1936، قُتل ثلاثة يهود. وفي يوم الكفارة من السنة نفسها، أُلقيت قنبلة على الكنيس في بغداد، لم تتسبّب بكارثة بالصدفة. وبات التحريض الواضح على اليهود في التظاهرات، الصحف، والبيانات أمرًا شائعًا. عام 1938، أُقفلت صحيفة “الحاصد”، التي كان يملكها يهود. وازدادت وتيرة التحريض اللاساميّ والاعتداءات الجسدية.
خلال الخرب العالمية الثانية، شهد العراق انقلابًا، أدّى إلى وصول مجموعة ضبّاط بقيادة رشيد عالي الكيلاني إلى السلطة وتأسيسها حزبًا داعمًا للألمان. فشهد الإعلام والتجمّعات الجماهيرية انتشار دعاية مضادّة للإنجليز ولليهود. ونُظّمت تظاهرات ضدّ اليهود، انتهى بعضُها باعتداءات. تعرّضت أموال الجالية للابتزاز، وخُصّص الكثير من المال لمحاربة الإنجليز. فسُجن اليهود وعُذِّبوا بتهمة التجسس أو بعُذر أنهم يوجّهون الطائرات البريطانية التي كانت تحلّق في سماء بغداد.
أوكلت حقيبتا الإعلام والأمن الداخلي ليونس السبعاوي، الذي كان نصيرًا للنازيين وعُرف بلا ساميّته، إذ شجّع اضطهاد اليهود. تعرّضت المدارس اليهودية للاعتداء وعانى اليهود من هجمات عنيفة على منازلهم في بغداد.
كان أحدُ الأحداث البارزة في تاريخ يهود العراق السطوَ الكبير على متاجر يهود البصرة. حدث ذلك بعد احتلال البريطانيين المدينة وفرار سلطات الكيلاني، ممّا أبقى المدينة دون سلطة عمليًّا. في 19 أيّار، استغلّ الرعاع الوضع، اقتحموا الحيّ التجاريّ في البصرة، وسلبوا وخرّبوا المتاجر والحوانيت اليهودية، غير مُبقين فيها شيئًا تقريبًا.
“ليلة البلور” ليهود العراق
حدث أخطر الأحداث في تاريخ يهود العراق بعد بضعة أيّام، بعد أن احتلّ الإنجليز العاصمة بغداد. ففي أوّل حزيران، عشية عيد الأسابيع اليهودي، اصطدم في جسر الخور جنود عراقيّون، مُحبَطون جرّاء الهزيمة أمام الإنجليز، بيهود خرجوا لاستقبال الوصيّ المناصر لبريطانيا، الأمير عبد الإله، القادم إلى العاصمة. انضمّ الجموع إلى الجنود، وخلال ساعات قليلة جرى اقتحام الأحياء اليهودية في المدينة.
بين الرعاع كان مسلمون من الطبقات الفقيرة، بعض المسيحيين الذين قادوا المُهاجِمين إلى بيوت اليهود، ولاحقًا بدوٌ من المنطقة أيضًا. لم تتحرّك الشرطة، ولم تتدخل السلطات العسكرية الوقتية سوى بعد الخشية من خروج الفوضى عن السيطرة وإلحاق الأذى بغير اليهود. تصدّرت المُشاغِبين كتائبُ الشبيبة “الفتوة”، التي درّب بعض مجموعاتها يونس السبعاوي نفسُه.
راح ضحيّة الهجمات 179 شخصًا، فيما أُصيب 2118. تيتّم 242 ولدًا، وسُلبت ممتلكات 48,584 شخصًا. تُثير الأعمال الوحشية التي جرت أثناء المذبحة الاشمئزاز، فقد شملت قتل أطفال رُضَّع، نساء، وشيوخ مع التمثيل بجثثهم، اغتصابات، وكذلك اعتداءات على كُتب توراة وأغراض مقدّسة يهودية. لُقّبت الاعتداءات لاحقًا “الفرهود”، وهي تُدعى أحيانًا “ليلة البلّور ليهود العراق”، إشارةً إلى الليلة الشهيرة التي شهدت قبل بضع سنوات في ألمانيا وحشيّة ضدّ اليهود، إذ فُجّرت دور عبادة وأُحرقت كتب دينية يهودية.
من العراق إلى إسرائيل
بعد أحداث 1941، ظلّت القيادة التقليدية تعتقد أنّ أحداث “الفرهود” كان عابرة، وأنه يجب محاولة الاندماج في المجتمع العراقي، لا سيّما في ظلّ إغراءات الغنى إثر الازدهار الاقتصادي الذي تلا انتصار البريطانيين، ولكنّ الشبّان بدأوا بالبحث عن واقع أفضل. فقد توجّه معظم الشبّان إلى الصهيونية، أنشأوا تنظيمات محلية، وأسّس لاحقًا مبعوثون من فلسطين فرعًا لتنظيم “الهاغاناه” في العراق. التحق شبّان آخَرون بالحركات الشيوعية، التي بدأت تكتسب شعبيّة إثر تعزّر قوّة الروس في الحرب. وعملت جميع هذه القوى تحت الحظر.
خلال الحرب، وأكثر أيضًا بعد انتهائها وإنشاء دولة إسرائيل، بدأت تعمل التنظيمات اليهودية المحظورة لتهريب اليهود إلى فلسطين (أرض إسرائيل)، رغم الحظر الشديد على مغادرة العراق، بشكل خاصّ عبر إيران. وفي مطلع الخمسينات، قادت السلطات الإسرائيلية حملة ضخمة أفضت إلى تهريب 110,618 يهوديًّا من العراق إلى إسرائيل عبر الطائرات. ولم يبقَ سوى بضع مئات من اليهود، معظمهم كبار في السنّ، أصرّوا على البقاء أو لم ينجحوا في المغادرة. ولم يبقَ من الجالية اليهودية العريقة التي استوطنت العراق في الماضي، وفق التقديرات، سوى ثمانية يهود.