مرة واحدة كل عامين تقريبا ينشأ جدل ثقافي موسيقي مهم في إسرائيل. لا، ليس جدلا حول الفساد السياسي، طغيان الحكم، النضال من أجل المساواة في المجتمع الرأسمالي أو الصراع السياسي بين اليمين واليسار، وإنما هو صراع حقيقي ومليء بالدوافع حول تنوع الموسيقى الإسرائيلية اليوم.
لم يعد سرّا أن الموسيقى التي تُسمى في إسرائيل “شرقية” أو “شرق أوسطية”، تحظى في السنوات الأخيرة بازدهار منقطع النظير وبانتعاش. وقد جاءت مع الازدهار الانتقادات، سواء من الداخل أو الخارج.
وقد أشعلت لهيب الجدل الأخير، والذي يغرق في هذه الأيام الحوار العام في إسرائيل، وزيرة الثقافة والرياضة الجديدة، ميري ريغيف (الليكود). ميري ريغيف هي ابنة لأسرة من والدين من مهاجري المغرب، وقد أشعلت مؤخرا جدلا جديدا/ قديما حول طبيعة الموسيقى الشرقية ومركزيتها في الثقافة الإسرائيلية.
في خطوة غير مسبوقة أعلنت ريغيف في الأسبوعين الماضيَين أنّها تعتزم إدخال المزيد من الموسيقى العبرية إلى الإذاعة الأكثر استماعا في إسرائيل، وهي “إذاعة الجيش الإسرائيلي ” (جلجلاتس) بل وإعطاء مكان أكبر وتمثيل مناسب أكثر للموسيقى التي يصنعها موسيقيون من الطوائف الشرقية.
وقد استُقبل قرار الوزيرة من قبل الكثيرين بدهشة، ومن قبل آخرين، ومن بينهم مطربون شرقيون، بالتصفيق الحارّ.
من أجل حسن الترتيب، تعتبر الموسيقى الشرقية في إسرائيل موسيقى صُنعت في إسرائيل باللغة العبرية وهي تتماهى مع التقاليد الموسيقية لأبناء الطوائف الشرقية. من أجل التماهي مع تقاليد الطوائف الشرقية، يتأثر هذا النوع من الغناء بالموسيقى العربية بالإضافة إلى الموسيقى اليمنيّة، اليونانيّة، الكردية، البخارية، التركية والمغربية.
تسعى التوجيهات الجديدة التي تحاول الوزيرة إدخالها إلى إحداث تغيير كبير في المحتويات المسموعة في الإذاعة رغم أنف الذين قرّروا من فترة أية محتويات يتم سماعها وأي منها يعتبر غير مناسب ليذاع في الإذاعة.
انتقادات خارجية
على مدى سنوات طويلة كانت إذاعة الجيش الإسرائيلي، الإذاعة الأكثر استماعا في إسرائيل. في برامج الإذاعة العديدة اختار منتجوها أن يذيعوا موسيقى عبرية (40%) وموسيقى معاصرة، بوب، روك، هيب-هوب وغيرها من الموسيقى العالمية (60%). واشتكى المطربون، من أبناء الطوائف الشرقية، أكثر من مرة، من أنّ منتجي هذه البرامج لا يذيعون أعمالهم بشكل كاف لاعتبارات عنصرية أو لأنهم يعتقدون أن الموسيقى الشرقية “غير مناسبة” في أفضل الحال، وفي أسوأ الحالات “حقيرة”.
وادعى المدافعون عن قرار إذاعة الجيش بالتقليل من بثّ الموسيقى الشرقية العكس: المشكلة في مصطلح “موسيقى شرقية” هي في الجانب المسبب للانقسام فيها، كما قالوا. اتُّهم الموسيقيون الشرقيون بوضع الموسيقى “الشرقية” مقابل الموسيقى “الأشكنازية”، في ثقافة تنامت وأصبحت شعورا بالاضطهاد مثيرا للانقسام، ونسيت بأنّها قبل كل شيء وبعد كل شيء ثقافة عبرية.
وقال منتقدو هذه الثقافة أيضًا إنّ إسرائيل اليوم غارقة بموسيقى سطحية من الجانب الشرقي، وغارقة بذلك من جانب موسيقى البوب والهيب-هوب الأجنبية، وبين هذين الخيارين الصاخبين، عديمي المذاق والاستبداديّين، تختنق ببطء الموسيقى العبرية النوعية.
انتقادات داخلية
أحد أكثر الانتقادات شيوعا ضدّ “الموسيقى الشرقية” هو أنّ كل علاقة بين الموسيقى الشرقية الأصيلة، بكلّ ثقلها، وبين “موسيقى المطربين الشرقيين الجدد”، هي من قبيل الصدفة تماما. يدعي الكثيرون أنّ المطربين الشرقيين مثل إيال جولان، سريت حداد، مايا بوسكيلا، مرجليت صنعاني أو دودو أهرون، رغم أنهم يصدرون أغان جذّابة، إلا أن موسيقاهم لا يمكنها الاقتراب من تعقيد الغناء الشرقي – العربي بألحانه أو كلماته التي تؤلف أغانيه.
يشتكي فنّانون شرقيّون من أن نجوم الغناء الشرقي لا يأخذون أغانيهم العميقة ولا يلحّنونها لأنّهم يبحثون عن أغان جذابة، مع كلمات غير معقّدة، بسيطة بل وفي أحيان كثيرة، مهينة.
هل تعكس إذاعة الجيش ذوق الجمهور الإسرائيلي؟
في الحقيقة: من غير الممكن أن نبرّئ إذاعة الجيش من التهمة. على مدى سنوات طويلة لم يحبّ منتجو الإذاعة بجميع أجيالهم – ببساطة – الاستماع إلى رتوش زوهار أرجوف، واضطر إلى بيع تسجيلاته في الأسواق بتل أبيب لبسطاء الشعب، حتى أصبح نجما.
يعتبر الكثير من الإسرائيليين إذاعة الجيش، إذاعة تمثّل رمزا لنخبة “دولة تل أبيب” وذلك بخلاف الأسطورة أن الجيش هو جيش الشعب، بوتقة انصهار المجتمع الإسرائيلي. ولا شكّ أيضًا أن المطربين الشرقيين، مثل المطربة مايا بوسكيلا، التي وجّهت انتقاداتها منقطعة النظير أكثر من مرة ضدّ الإذاعة، يحتاجون إلى أن يكسبوا رزقهم. هناك حاجة للقيام بثورة صغيرة في إذاعة الجيش على طريقة اختيار الأغاني التي ستتم إذاعتها، ويجب أن يكون هذا الموضوع في إطار نقاش حقيقي ومفتوح وليس بطريقة البلطجة المستخدمة اليوم، والتي يخرج فيها كل عدة أشهر مطرب آخر للصراع مع الإذاعة ويواجه جدارا من الطوب، دون أية قدرة حقيقية على إحداث تغيير.
وأكثر من ذلك فإنّ هذه الإذاعة هي الإعداد الافتراضي في كل سيارة في إسرائيل وإن كان لسبب بسيط وهو عدم وجود إعلانات فيها. إنّ ادعاء القناة، الذي بحسبه فإنّ نسب الاستماع المرتفعة تدل على نجاحها في استهداف الذوق الموسيقيّ لدى المستمعين، يمكن أن يدلّ بشكل أكبر على كراهية الإعلانات، أكثر من الإعجاب بالأغاني.
إذاعة الجيش هي “إجماع”، وبالنسبة للموسيقيين، فإنّ الأمر يعني العديد من العروض، تقارير في الإعلام واعتراف موسيقي والذي يعتبر ضروريا لحياتهم المهنية.
وبالمناسبة، فليس من المؤكد أنّ التدخّل المتزايد لوزيرة شؤون الثقافة، ميري ريغيف، سيعود بالنفع على الإذاعة. فبعد كل شيء، يعتبر تدخّلا سافرا لدوافع سياسية في المحتويات الثقافية التي لا ينبغي أن يتم إملاؤها من قبل الدولة، والتي قد تشكّل خطورة على حرية التعبير.