امتلأت شوارع القدس أمس (الخميس) برجال الشرطة، أفراد حرس الحدود ومقاتلي الوحدات الخاصة التابعة للشرطة، وكل من رفع عينيه للهواء كان بإمكانه أن يشاهد مناطيد المراقبة وهي تحلّق فوق خطّ التماس، المدينة القديمة والأحياء الفلسطينية للمدينة. وحلّقت طوال معظم اليوم أيضا طائرة مروحيّة فوق القدس الشرقية.
هكذا بدا اليوم السابع لعملية كبيرة للشرطة حظيت باسم “حراس الأسوار”. وتهدف الحملة إلى إحداث التهدئة للمدينة التي تعاني منذ أربعة أشهر من موجة عنف مستمرّة. وقد أعربت الشرطة والبلدية مجددّا في الأيام الأخيرة عن تفاؤل حذر على ضوء الانخفاض الذي تمّ تسجيله في عدد حالات إلقاء الحجارة وأعمال الشغب. وبدا أنّ الضغوط التي مارستها الشرطة والضغوط الاقتصادية، من خلال إنفاذ إجراءات شاملة للبلدية ومصلحة الضرائب، قد قامت بواجبها. ولكن ما حدث في عملية الدهس في محطة القطار الخفيف في الأسبوع الماضي، مما بدا وكأنه عملية إرهابية لإرهابي بمفرده؛ قلب أوراق اللعبة مرة أخرى.
وحتى كتابة هذه السطور لم يتّضح بعد إذا كانت محاولة اغتيال يهودا غليك من قبل الإرهابي معتز حجازي كانت عملية أخرى مستقلّة لشاب فلسطيني بمفرده، أم عملية منظّمة لخلية إرهابية. ولكن في هذه الأثناء ينضمّ حجازي إلى ثلاثة إرهابيين عملوا في القدس في الأشهر الأربعة الأخيرة. ينطبق على الثلاثة الذين سبقوه التعريف الغامض “الإرهابي الوحيد”: محمد جعبيص، الذي نفّذ عملية الدهس التي قُتل فيها أبراهام فالعس – عبد الرحمن الشلودي، الذي نفّذ عملية الدهس في الأسبوع الماضي والتي قُتلت فيها الطفلة حايا بارون والشابة كارين يميما – وإرهابي لم يُقبض عليه بعد (أمس طُرحت فرضية أنه ربّما يكون هو حجازي نفسه)، نفّذ عملية إطلاق النار في جبل المشارف وأصاب جنديّا بجروح خطيرة.
الأمور التي تؤرّق الجميع هي أن عدة شبان آخرين كهؤلاء يجلسون في بيوتهم في القدس الشرقية ويخطّطون لعمليات إرهابية
حين طُلب من وزير الأمن الداخلي، يتسحاق أهرونوفيتش، تفسير تفاؤله في صباح اليوم الذي تحدّث فيه عن الهدوء الذي عاد إلى القدس، ذكر أنّه في نفس الوقت حذّر من الإرهابي الوحيد. المبدأ القتالي الذي طوّرته الشرطة لمواجهة راشقي الحجارة، بواسطة قوى شرطة ضخمة والاستخدام المكثّف لوسائل تفريق المظاهرات؛ ليست له صلة بالعمليات الإرهابية الفردية. الأمور التي تؤرّق الجميع هي أن عدة شبان آخرين كهؤلاء يجلسون في بيوتهم في القدس الشرقية ويخطّطون لعمليات إرهابية، وفي الوقت الذي يتحدّث فيه الجميع عن انتفاضة شعبية تنطلق من القدس؛ فإنّنا في الواقع بصدد سيناريو أسوأ بكثير: موجة من العمليات الإرهابية تأتي من المدينة.
في تقرير للشاباك من أواخر العام 2008 حذّر الجهاز من الارتفاع في أعداد المقدسيّين المتورّطين في الإرهاب ومن ظاهرة الإرهابيين الوحيدين، “الذين ينظّمون أنفسهم على أساس محلّي، و/ أو الذين يبادرون وينفّذون العمليات الإرهابية دون توجيه خارجي”، حسبما ذكر التقرير. وقد ذكر التقرير أيضًا أنّه إلى جانب المحرّك القومي، فقد تمّ تحريك الإرهابيين “أيضا بدوافع شخصية دفعتهم إلى تنفيذ العمليات الإرهابية”. على الأقل في حالة الشلودي، الإرهابي الذي قام بعملية الدهس قرب القطار الخفيف، يمكننا أن نقول إنه يلتقي مع هذا النمط: منذ إطلاق سراحه من السجن وجد صعوبة في العثور على عمل، وعانى من مشاكل صحية ومشاكل نفسية.
تشحذ العمليات الإرهابية في القدس الشذوذ الذي في القدس الشرقية مقارنة مع مدن الضفة الغربية. وقد حلّل الباحث في قضايا القدس الشرقية وعضو منتدى التفكير الإقليمي التابع لمعهد “مولد”، عيران تصدقياهو، تورّط المقدسيّين في العمليات الإرهابية في السنوات الـ 15 الأخيرة. ويظهر من التحليل أنّ هناك علاقة عسكرية بين العمليات الإرهابية في القدس وبين تلك التي في الضفة الغربية. فعلى سبيل المثال، تحديدا بين عام 2000 حتى 2005، سنوات الانتفاضة الثانية، خرج القليل نسبيّا من الإرهابيين من القدس. ورغم ذلك تعرّضت المدينة لموجة من الهجمات القاسية، والتي حصدت أرواح أكثر من 200 شخص، ولكن في نفس تلك السنوات السوداء نفّذ سكان المدينة ثلاث عمليات من بين 30 عملية انتحارية في العاصمة. في ذلك الوقت تحديدا ظهر أنّ سكان القدس يفضّلون عدم الانضمام إلى موجة العنف.
وفقًا لمعطيات الشاباك، فقد بدأ الخطّ البياني للمنخرطين بالإرهاب في العاصمة بالصعود في سنة 2008 على وجه التحديد، عندما أصبحت الضفة الغربية هادئة نسبيّا. اضمحلت هذه الموجة من العنف – والتي استمرّت لعامين – ببطء عام 2011، وتجدّدت في العام الماضي، وخصوصا في الصيف الأخير.
في التفسيرات التي يقدّمها الفلسطينيّون أنفسهم لهذه الظاهرة فإنّهم يذكرون في الغالب ثلاثة عوامل تؤثر على القدس: بناء جدار الفصل، الزيارات اليهودية المتزايدة للحرم القدسي والمستوطنات اليهودية في قلب الأحياء الفلسطينية
وفي التفسيرات التي يقدّمها الفلسطينيّون أنفسهم لهذه الظاهرة فإنّهم يذكرون في الغالب ثلاثة عوامل تؤثر على القدس وتبعدها عن الهدوء النسبي الذي في الضفة الغربية: بناء جدار الفصل، والذي أضرّ كثيرا بالمجتمع والاقتصاد في القدس، الزيارات اليهودية المتزايدة للحرم القدسي والمستوطنات اليهودية في قلب الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية. ويضيف تصدقياهو وآخرون إلى ذلك سحق القيادة الفلسطينية في القدس الشرقية. “القيادة الفلسطينية في الضفة هي عنصر مخفِّف، في القدس ليس فقط أنّه يُمنع على السلطة العمل وإنما تم سحق القيادة المحلية”، كما يقول تصدقياهو، وتعمّد الإجراءات المنهجية من قبل إسرائيل لإغلاق المؤسسات وتفريق الفعاليات المرتبطة بالسلطة الفلسطينية في القدس.
أيّا كان تفسير ذلك، فإنّ الظاهرة التي برزت لأول مرة عام 2008 تكرّرت هذا العام. هذه المرة أيضا مدن الضفة هادئة بشكل نسبي، وأيضا تُبرز القدس استقلالها في كلّ ما يتعلّق بالانتفاضة الشعبية وبالإرهاب.
ولكن شذوذ القدس تمثّل أيضا بتوتّر آخر ومذهل داخل المجتمع الفلسطيني في المدينة. يلاحظ كلّ من يعمل في المجتمع الفلسطيني في القدس الشرقية في السنوات الأخيرة أنّ هناك إجراءات تبدو متناقضة. من جهة، الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، ومن جهة أخرى، عمليات الابتعاد عنه وتعزّز القومية الفلسطينية. ويبدو أنّ هذا التناقض قد تمثّل بشكل تامّ بشخصية حجازي، الذي أطلق النار على يهودا غليك، وهو من عناصر الجهاد الإسلامي (سابقًا على الأقل)، أسير أمني محرّر، ولكنه يعمل في مطعم تابع لمركز تراث مناحيم بيغن.
في الواقع، فإنّ هناك عدد من المؤشرات في السنوات الأخيرة والتي تظهر الاندماج في المجتمع اليهودي
وفي الواقع، فإنّ هناك عدد من المؤشرات في السنوات الأخيرة والتي تظهر الاندماج في المجتمع اليهودي؛ فالمزيد من الفلسطينيين يفضّلون امتحانات البجروت الإسرائيلية على ما يقابلها من امتحانات فلسطينية، ويقدّمون طلبات الحصول على الجنسية، ويدرسون العبرية والمزيد منهم يتعاون مع البلدية والسلطات الإسرائيلية. وقد زاد القطار الخفيف أيضا من الاختلاط بي السكان، ويقضي الكثير من الشبان الفلسطينيين والعمال في وسط القدس أوقاتهم في المراكز التجارية غربيّ المدينة. بل إنّ أحداث الأشهر الأخيرة، إلى جانب الهجمات العنيفة ضدّ العرب في وسط المدينة، لم توجّه هذه العجلة إلى الوراء. ولكن إلى جانب هذه الإجراءات، ازداد العنف في القدس الشرقية ولا شكّ إطلاقا بأنّ تطرّفا دينيّا وقوميّا قد بدأ في أوساط سكان القدس الشرقية.
من الصعب جدّا التوفيق بين هذه المتناقضات. “طالما أنّها قضية بقاء وحياة يومية فإنّ هذا سيمرّ. ولكنّ ذلك لا يقول شيئا عن نجاح الاندماج أو “الأسرلة”، هو فقط يُظهر أنّ الحياة أقوى من أي شيء آخر”، كما يقول تصدقياهو.
أمس، وفي محاولة لخفض ألسنة اللهب قليلا، وعد المفتّش العام يوحنان دانينو قائلا “نحن بعيدون جدّا عن الانتفاضة ولن نصل إلى هناك”. ولكنّ الشذوذ المقدسي والإجراءات المتناقضة في المدينة تجعل من الصعب جدّا التنبّؤ إلى أين ستتطوّر الأحداث.
نُشرت المقالة لأول مرة في موقع هآرتس