في مساء أمس (الأحد)، يوم الذكرى لمن قُتل من الجنود في معارك إسرائيل وضحايا الإرهاب، حيث تم في كلّ إسرائيل إقامة مراسم ذكرى إسرائيلية، فبرز مَرسَم واحد أقيم في تل أبيب بتفرّده. كان ذلك مَرسَم مشترك إسرائيلي – فلسطيني نظّمتْه حركة “مناضلون من أجل السلام” للسنة التاسعة على التوالي.
تأسست حركة “مناضلون من أجل السلام”، كما تعرّف الحركة بنفسها، بشكل مشترك من قبل فلسطينيين وإسرائيليين، “ممن كانوا جزءًا نشيطا من دائرة العنف في منطقتنا: الإسرائيليون كجنود في جيش الإسرائيلي. والفلسطينيون كجزء من حركة المقاومة من أجل الحرية الفلسطينية”. بعد سنوات طويلة أمسكوا خلالها بالسلاح، و”ورأى الواحد منهم الآخر فقط من خلال فوهات البنادق”، قرّروا “أن يضعوا السلاح جانبًا، وأن يحاربوا من أجل السلام”.
ويعتبر مرسَم الذكرى المشترك الحدث السنوي الأكبر الذي تقيمه حركة “مناضلون من أجل السلام”. “في هذا اليوم الصعب تحديدًا ندعو كلا الجانبين إلى الاعتراف بالألم والأمل لأولئك الذين يعيشون على الجانب الآخر من الجدار وأن يحاولوا منع الحرب القادمة. هكذا، ربّما، في يوم الذكرى للعام القادم لن نضطرّ إلى عدّ المزيد من الضحايا”، كما جاء في موقع الحركة وفي الدعوة للمَرسَم.
أمس، في الساعة التاسعة مساءً، بعد نحو ساعة من سماع صفّارة الذكرى في أرجاء إسرائيل، اجتمع في قاعة كبيرة ومظلمة في تل أبيب المئات من الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين أتوا بسفريّات خاصّة من الضفة الغربية، بعد أن عملت الحركة بجدّ للحصول على تصاريح دخول لإسرائيل.
كانت غالبية الفلسطينيين الذين حضروا من أبناء عائلات ثكلى، ممن فقدوا طفلا، أختًا أو أحد الوالدين في الصراع. شارك من الجانب الإسرائيلي آباء لجنود قُتلوا في المعارك، إخوة لمواطنين أصيبوا في العمليات الإرهابية، والكثير من الآخرين الذين طلبوا التعبير عن تأييدهم للمَرسَم والأفكار التي من ورائه.
قال لنا أحد نشطاء الحركة عن المرسَم: “بدأ كلّ شيء من باب الحاجة إلى التواصل مع هذا اليوم. لدى الكثير منّا أشخاص قُتلوا في هذا الصراع، وصعوبة في التواصل مع المراسم التقليدية، حيث يتحدّث كلّ واحد عن ضحاياه، ولكنّه على الطريق يقوم بإعداد الجيل القادم مع الكثير من عناصر النزعة القومية والعنف.
نشعر أنّ الأمر الصحيح بالنسبة لنا، هو الاعتراف بأنّ هناك ضحايا من كلا الجانبين في هذا الصراع، وليس لدى طرف واحد فحسب. ومن أجل أن ينتهي هذا الصراع يجب علينا الاعتراف بضحايا الآخر. معظم الذين قُتلوا في هذا الصراع هم أشخاص طيّبون مع نوايا جيّدة، وعلينا أن نستمرّ قدمًا، وعدم البحث عن الجيل القادم من الشهداء، وإنّما إيقاف هذا الأمر هنا”.
صعد إلى المنصّة مقدّمان، إسرائيلي وفلسطيني، وأدارا المرسَم باللغتين العبرية والعربية. كان أحد الأمور الأكثر بروزًا في المَرسَم هو الاحترام المتبادل، والمساواة التامّة التي مُنحتْ لكلّ واحد من الجانبين، وهو مشهد نادر جدّا في إسرائيل في وقتنا الحاضر. بعد ذلك صعد إلى المنصّة نشطاء الحركة الذين طلبوا الحديث عن حزنهم، وعن الطريقة التي يتذكّرون بها ضحاياهم، أو كيف فقدوا أحبّاءهم نتيجة للصراع.
ولكنّ هذا المرسَم الفريد بعيد عن القبول بأذرع مفتوحة في إسرائيل. ربّما يعتبر يوم الذكرى الإسرائيلي “قدس الأقداس” للقومية الإسرائيلية. في يوم واحد يتوحّد كلّ الشعب في ذكرى الجنود والضحايا، والذين هم وفق الرؤية الإسرائيلية “قاتلوا من أجل إقامة الدولة، وبفضلهم نحن نقف هنا الآن”. في هذا اليوم يكون الجميع أكثر جدّية، وأكثر احترامًا، ويبدو الوقت وكأنّما هو لا يتحرّك. في المراسم الكثيرة في هذا اليوم، سواء كانت في المقابر أو في ميادين المدن، تحكي العائلات قصص الذين سقطوا، وتنفعل الجماهير معًا وتذرف الدموع.
ربّما بسبب ذلك، يجد الكثير من مواطني إسرائيل صعوبة في “ضمّ” حزن “غريب وخارجي”، وأكثر من ذلك، “حزن العدوّ”، مع هذا اليوم المهمّ. خلال الحفل تجمّع خارج القاعة نشطاء اليمين، لوّحوا بالأعلام الإسرائيلية، وهتفوا بشعارات عنف رهيبة ضدّ المرسَم و”الخونة” – بحسب تعبيرهم – الذين يقيمونه.
حين سألنا أحد نشطاء الحركة ماذا لديه ليقول لجميع هؤلاء الناس، قال: “أفهم من يجد صعوبة ويُعارض. بالنسبة لي أيضًا كان هذا اليوم “قدس الأقداس”، ولكن أن نحوّل ذلك إلى “قدس الأقداس” بالطريقة التي تمّت الآن، فهناك شيء من الصعب أن يتواصل معه الأشخاص الآخرون، حتى الأشخاص الذين كان أبناؤهم جنودًا أو قُتلوا في العمليات الإرهابية. والشعور هو أنّهم يستخدمون الضحايا التي كانت لهم من أجل استمرار التضحية والحرب. نحن نريد الانتقال إلى مكان جديد.
وأضاف: “أعرف هذه الانتقادات. يسأل الكثيرون: لماذا في هذا اليوم تحديدًا؟ أستطيع التواصل مع مشاعر الذين يقولون ذلك، وأريد أن أقول لهم بأنّ هذا اليوم كان أيضًا مؤثّرًا عليّ، وأنا أيضًا أحتاج في هذا اليوم شيئا لأتعاطف معه. هناك قوّة لهذا اليوم، وفيه مشاعر صعبة، وفي هذا اليوم فقط يمكننا أن نقيم مراسم كهذه وأن نقول شيئا”.
وفي الجانب الفلسطيني، بطبيعة الحال، ليس من السهل تقبّل هذا التماهي مع الذكرى الإسرائيلية، والحزن على جنود الجيش الإسرائيلي، الذين هم الأعداء بالنسبة لهم. شاركني جمال، نشيط في الحركة، بقصّته الشخصية المؤثّرة، كيف اعتقل بعد إحدى المظاهرات التي شارك بها، وتلقّى الضربات أثناء التحقيق، حتى فقد وعيه وبصره في كلتا عينيه، وقدرًا فقط استطاع أن يبصر من جديد، ولكن علامات العنف ما زالت واضحة في الحَوَل الذي تركه المحقّقون عليه.
بعد أن استعاد صحته، فهمَ أنّ العنف لن يؤدّي به، أو بالشعب الفلسطيني إلى أيّ مكان، وقرّر الانضمام للحركة. وهو ينفي ادّعاءات التطبيع، وقال عن معارضة المراسم: “صحيح أنّه في فلسطين أيضًا تُسمع هذه الدعوات، ضدّ فعاليّتنا وضدّ المراسم، ولكنّنا في داخلنا لم نعد نهتمّ لدعوات الإدانة والعنف، ونحن نعلم بأنّنا نفعل الشيء الصحيح. تمامًا كما أنّه في إسرائيل، فهم يقفون هنا في الخارج ويصرخون، فليصرخوا طوال الليل. هم يقولون ما يريدون ونحن نفعل ما نريد. وطريقنا هو الأكثر نجاحا”.