الديموقراطية في الدول العربية في صراع على الحياة. خلّفت موجة الاضطرابات والاحتجاجات التي جرفت دولًا عديدة دمارًا سياسيًّا. ففي مصر، أطاحت الجموع بمبارك من السلطة، وضعت “الإخوان المسلمين” مكانه، شاهدتهم يفشلون سياسيَّا، والآن تقبل بلامبالاة متّسِمة بالواقعية عودة المؤسّسة العسكرية – السياسية إلى السلطة. في اليمن وليبيا، لا تزال الفوضى السياسية سائدة. أمّا في سوريا، فيُخاض غمار حرب أهلية تُسفر عن كارثة إنسانيّة. إذا حكمنا بناءً على هذه الدول، فيبدو أنّ “الربيع العربي” تسبّب حتى الآن بضرر هائل وأنتج القليل جدًّا من الإنجازات.
لكن إلى جانب التحرُّر الملطَّخ بالدماء، حدثت بضعة تغييرات هامّة. ففي الواقع، من المبكر رثاء تبنّي الديموقراطية في بُلدان الربيع العربي. أوّلًا، أدركت الجموع أنّ بإمكانها تهديد حكّام أوتوقراطيين وتهديد سلطتهم نفسها. هذا الإدراك هامّ للمُواطنين أنفسهم طبعًا، لكنه يشكّل أيضًا تهديدًا مستمرًّا للحُكّام. ثانيًا، ليس واضحًا أية طرق سياسية يمكن أن تنبع من الفوضى الحاليّة. وثالثًا، تحاول دولة واحدة، تونس، وهي لا تزال تبحث عن طريقها السياسي، بناءَ إطار قانوني وشعبيّ يدمج بنجاح الأحزاب الدينية في نسيج الحياة السياسية.
تونس، الدولة التي أشعلت “الربيع العربي”، هي المختبَر السياسي الأكثر إثارةً للاهتمام في الشرق الأوسط. وتدلّ الأزمة الدائرة فيها في الأشهر الأخيرة تحديدًا على مدى قوّة القوى الديموقراطية في هذه الدولة. فمنذ شباط 2013، حين اغتيل القياديّ المعارِض شكري بلعيد، تواجه المنظومةُ السياسية خضّاتٍ عديدة. تحاول القوى السياسية المنتخَبة تشكيل حكومة تقود تونس، لكنها تخفق في التوصّل إلى اتّفاق حول هوية رئيسها. ويُشير انعدام القدرة على تحديد قائد وقتيّ يقود حكومة انتقاليّة حتّى الانتخابات القادمة إلى انعدام الثقة الذي يسود المنظومة السياسية. لكنّ الطريقة التي يواجه بها التونسيّون التحدي هي مثيرة، بشكل خاصّ لأنّ هيئات من المجتمع المدنيّ، مثل جمعية حقوق الفرد، نقابة القضاة، واتحاد العمل، هي التي تقود عملية البحث عن رئيس حكومة انتقاليّة، فيما السياسيون يتعاونون معها.
لكن تونس تعاني بالتوازي من موجة عمليات إرهابية، بلغت ذروتها في اغتيال شكري بلعيد. فالميليشيات السلفية تتواجه مرةً بعد أخرى مع القوى الأمنية، رغم أنّ الحكومة تحتوي على أكثرية للإسلاميين. وفيما الأحزاب الإسلامية المعتدلة – وذات الشعبيّة – الشريكة في الائتلاف مستعدّة للتنازل في مسألة مكانة الشريعة الإسلامية في القانون التونسي، فالسلفيون، بطبيعة الحال، معنيّون أن تكون الشريعةُ الإسلاميةَ المصدرَ المهيمِن. لكنّ هذه الأزمة تدلّ في حقيقة الأمر على الحضور القويّ للقِيمَ الديموقراطية في تونس، إذ تهتمّ حتّى الأحزاب الإسلامية بتعزيز الديموقراطية، ولو على حساب قِيَم إسلاميّة تقليديّة.
لا يمكن التنبؤ بكيفية حلّ هذه الأزمات. لكن بعد سنواتٍ ثلاث من محاولة تأسيس دولة ديموقراطية، نشأ في تونس بعض المميّزات التي تعزّز استقرارها واحتمال تأسيس دولة ديموقراطية. الميزة الأولى هي القدرة والاستعداد على كبح الجيش. فخلافًا لمصر، حيث نظر الجيش، الذي يتدخّل في السياسة والاقتصاد، إلى الإطاحة بمبارك كأزمة وقتية وانتظر فرصةُ للعودة إلى مواقع قوته التقليدية، يبتعد الجيش في تونس عن السياسة. الميزة الثانية هي عدم نجاح الميليشيات في حصد دعم شعبيّ واسع. فرغم أنّ موجة الإرهاب الميليشوية توتّر العلاقات بين الأحزاب الإسلامية والجمهور الليبرالي، يخفق التيار الميليشوي في حشد دعم شعبي واسع. فمعظم الشعب يدعم حركاتٍ إسلامية معتدلة أو ليبراليّة. أمّا الميزة الثالثة فهي التوازن السياسي الذي لا يمكن فيه للأحزاب الإسلامية حيازة أكثرية تتيح لها تجاهُل الأحزاب الليبرالية، ما يجعلها تميل إلى التسويات.
السؤال المُثير للاهتمام هو: هل ستستمرّ الدولة الصغيرة التي أشعلت نار التمرّد على حُكّام فاسدين في كلّ أنحاء الشرق الأوسط في قيادة الدول العربية، وتعرض أمامها نموذجًا ناجحًا لاحتواء أحزاب إسلاميّة في إطار سياسي ديموقراطي؟
نشر المقال على موقع Can Think، والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.