لقد قام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بذبح آلاف الشيعة في العراق وسوريا، حتى الآن، وسيطر على إقليم مماثل بمساحته لبريطانيا. أما بالنسبة للموارد الاقتصادية الّتي اغتنمها، فتحوّله إلى التنظيم الإرهابي الأغنى في العالم. إن إعجاب عشرات آلاف الشباب من دول الشرق الأوسط وخارجه بهذا التنظيم، الانخراط في القبائل السنية في العراق وسوريا والفكر السني المتطرف- لذلك، كان من المفترض لكل هذه الأمور حث الجيش الإيراني على شن حملة عسكرية شاملة على الفور. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا تحفز إيران، القوة الشيعية العظمى في العالم، بعض كتائبها لاجتثاث تنظيم الدولة الإسلامية من جذوره؟
هددت قيادات سياسية وعسكرية إيرانية، مرارا، أن تستخدم قوتها أمام تنظيم الدولة الإسلامية بسبب “أعمال الذبح بحق الشيعة وتدمير المساجد”. لم يكن لهذه التصريحات أي صدى على أرض الواقع: لكن قامت إيران بإرسال وحدات من الحرس الثوري للدّفاع عن مواقع مقدسة للشيعة، وقد مدّت الجيوش العراقية والسورية بالأسلحة، لكنها تستبعد استخدامها “لكافة قوتها”. إضافة إلى ذلك، فإن عمليات الذبح بحق المسلمين الشيعة، والأقليات الأخرى، ما زالت مستمرة ولم تتوقف بعد، وهذا الخطر يتهدد المناطق الحدودية الإيرانية مع العراق.
إيران، التي تهدف إلى أن تصبح زعيمة العالم الإسلامي، وعلى الأقل العالم الإسلامي الشيعي، لا تستغل فرصة استعداد تنظيم الدولة الإسلامية لاجتياحها، من أجل إنقاذ حلفائها الأكثر أهمية في الشرق الأوسط- سوريا والعراق. ولو فعلت ذلك، لأسعدت القوى الغربية، التي تبغي منع أية تعقيدات عسكرية إضافية في مستنقع الشرق الأوسط. التفت الطوائف الشيعية، من لبنان حتى الخليج الفارسي، حول إيران تحت ما يسمى المواجهة السنية- الشيعية الأكثر احتداما في عصرنا الحاضر، وكان يمكن للنظام، الذي يعاني من انخفاض شعبيته، أن يحارب هذا التنظيم حتى يجعل الجمهور يلتف حوله من جديد. وإضافة إلى ذلك، إنَّ الدخول في معركة مفتوحة وشاملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، من شأنه أن يمنح إيران فرصة ذهبية من أجل استقرار موقف حلفائها في العراق وسوريا، ولمساعدتهم لسحق التمرد المستمر ضدهم، حيث دفعت إيران، إثر ذلك، ثمنا باهضا بعد مقتل الكثير من الجنود والمتطوعين، وكذلك الأمر بالنسبة للموارد الاقتصادية الّتي يصعب على النظام الاقتصادي الإيراني أن يتحمل كلفتها.
يمكن فهم الأزمة الإيرانية من خلال عاملين اثنين. الأول، منذ انطلاق الثورة الإيرانية عام 1979، تصادمت كل المصالح الثورية والوطنية مع بعضها البعض، وتغلبت المصالح الوطنية. فهذا ما حصل في الصراع بين أرمينيا المسيحية وأذريبجان الشيعية (1988-1994) في معركة بسبب منطقة “نغورينو-كارباغ”، التابعة للمنطقة التي تسيطر عليها أذريبجان، المسكونة من قبل الأرمن، في حين قامت إيران بدعم الأرمن بصرف النظر عن موت آلاف الشيعة في الصراع (المستمر لغاية اليوم). خشيت إيران من أن يقوم الأذربيجانيون الإيرانيون، والذين يمثلون 20% من عدد أفرادها، بالاتحاد مع أصدقائهم الموجودين خلف الحدود. أضف إلى ذلك العصيان الشيعي ضد صدام حسين في بداية سنوات الـ 90 من القرن الماضي. بالرغم من ذبح ما يقارب ربع مليون شيعي عراقي وتدمير أكثر المواقع قدسية للشيعة، فإن إيران لم تحرك ساكنا من أجل مساعدة الشيعة، من منطلق أن الاهتمام الذي تصبو إليه هو اهتمام قومي في الدرجة الأولى وهو إقامة الدولة بعد الحرب الطويلة التي خاضتها ضد العراق (1980-1988) وقد كان ذلك بالنسبة لها أهم من الاهتمام الديني. ومن هنا، يمكن أن نستنتج أن إيران لن تقبل أن تضع اهتمامها الديني في الأولوية على حساب اهتمامها الوطني.
كما ويمكن تفسير معضلة إيران في عدم تدخلها عسكريا ضد الدولة الإسلامية من خلال الصراع المستمر بين إيران والمملكة السعودية. التدخل العسكري الإيراني من خلال حملة شاملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، من شأنها أن تخلق صراعا على التنافس من أجل السيطرة في مناطق الشرق الأوسط بين الدولتين، ويمكن أن تؤدي إلى نشر قوات إيرانية- عراقية مشتركة على الحدود الغربية للمملكة السعودية، من أجل منع تسلل آلاف الجهاديين السعوديين وكذلك منع تهريب السلاح إلى العراق، ومن هناك إلى سوريا. هذه القوات العسكرية، من شأنها أن تهدد السعوديين، ويمكنها أن تضطر إلى تدهور الحرب بين الدولتين إلى مواجهة عسكرية مباشرة.أثبتت إيران، في الماضي، أنها استطاعت أن تتجنب، قدر المستطاع، مما يمكن أن يجرها إلى الدخول في حرب كهذه، إلّا أنها تبارك العمل عبر وكلاء لها مثل حزب الله في لبنان، الحوثيين في اليمن وحماس في المنطقة.
في الختام، ليس منطقيا أن تشن إيران حملة عسكرية واسعة النطاق ضد تنظيم الدولة الإسلامية، انطلاقا من الأحداث الماضية والاعتبارات الحالية في الوقت الراهن، وكذلك فإن الضحايا الشيعية، في الشرق الأوسط، سترتفع حصيلتها. ومن المفارقات أن تتلاقى المواقف المختلفة في الشرق الأوسط، حيث أن القوة الشيعية المعادية للغرب، تفضل، ولو لم يكن قرارها علانية، أن تقوم القوى الغربية الكافرة بإنقاذ حلفائها والشيعة. ومن هنا نلحظ أن الفكر والواقع السياسي سيصطدمان مع بعضهما البعض حتى ينتصر الأخير في النهاية.
نُشر هذا المقال، لأول مرة، في موقع “Can Think”