ما هو الغيتو؟
في 21 أيلول 1939، بعد ثلاثة أسابيع من احتلال بولندا، أرسل راينهارد هيدريش، رئيس مكتب أمن الرايخ الرئيسي في ال “إس إس”، برقية عاجلة حدّدت الأنظمة والتعامل مع اليهود في المناطق المُحتلّة في بولندا. تقرّر في الإرشادات أنه يجب نقل اليهود الذين كانوا يعيشون في البلدات والقُرى إلى المُدن التي يُركَّز فيها اليهود في الغيتوات. كان أحد التوجيهات إنشاء مجالس لليهود في الغيتوات، تكون وظيفتها تنفيذ أوامر السلطات الألمانية، وحُدّد كهدف نقل المصانع التي يملكها اليهود إلى ملكية ألمانية، أي جعلها “آريّة”، مع أخذ حاجات الجيش في الاعتبار، وكذلك القيمة الاقتصاديّة للمصانع.
وهكذا، خلال سنة من احتلال بولندا، سُجن معظم اليهود في غيتوات مُغلَقة، غالبًا في أفقر الأحياء وأكثرها بُؤسًا. في ربيع 1940، أُقيم في لودج أول غيتو كبير كان مُقفَلًا بإحكام. وفي شتاء 1940، أُنشئ الغيتو الأكبر في وارسو، ووُضع فيه نحو نصف مليون يهوديّ.
حدثت أعمال القتل الجماعي الأولى لليهود في الأراضي التي احتلّها الألمان في الاتّحاد السوفياتي بعد اجتياحها في حزيران 1941. بعد أعمال القتل الأولى هذه، أنشأ الألمان غيتوات في هذه الأراضي أيضًا، ولكنها صمدت في معظم الحالات فترة قصيرة، إذ لاقى اليهود حتفهم بعد ذلك. أُقيم الغيتو الأكبر في الأراضي الشرقية في مينسك، روسيا البيضاء، وسُجن فيه نحو 100 ألف يهوديّ. في آذار 1944، احتلّ الألمان هنغاريا، وفي أيار بدأ إرسال يهود هنغاريا إلى أوشفيتز. أمّا في تشرين الثاني 1944، فأعلن الألمان عن إقامة غيتو في بودابست، وُضع فيه نحو 70 ألفًا من يهود المدينة. وفي الإجمال، أنشأ الألمان أكثر من ألف غيتو في شرق أوروبا، وغيتوات منفردة في وسط أوروبا وجنوبها.
حقّق الألمان عددًا من الأهداف بإقامة الغيتوات: رُكّز اليهود بكثافة وتحت مراقبة لصيقة، سُلبت أملاكهم وسُبل عيشهم، عُزلوا عن العالم خارج الغيتو، وأصبحوا مُعرَّضين للأذى وغير مستعدّين في لحظات المحَن. وفي النهاية، حرّض الألمانُ السكّان المحليين ضدّ اليهود، علمًا أنّ المحليين كانوا يُضمرون الضغينة على اليهود منذ البداية.
الحياة في الغيتو
مع الانتقال إلى الغيتو، سُمح لليهود أن يأخذوا معهم مجرد القليل من الأغراض الشخصية، تاركين كلّ ممتلكاتهم خلفهم. شهدت الغيتوات كثافة شديدة، وخلت من البنى التحتيّة للصرف الصحيّ والكهرباء. وكانت حصص الغذاء لليهود ضئيلة، لا تكفي ليشبع سكّان الغيتو. اتخذت السلطات الألمانية خطوات وحشية ضدّ مهرِّبي الطعام، بما في ذلك الإعدامات، العلنية وغير العلنيّة. تزايد الجوع، الأمراض، والأوبئة في الغيتو، ومات الكثيرون جرّاء ذلك.
ورغم الظروف غير الإنسانية التي سادت في الغيتوات، جهدت مؤسسات المجتمع المحليّ والمنظمات ذات الصلة لتقديم المساعدة الاجتماعية لتلبية حاجات الناس.
حاول الكثيرون من سكّان الغيتو العيش حياة أخلاقية، معرِّضين حياتهم للخطر. فقد اهتمّوا بإنشاء منظومة تربويّة بديلة، أنشأوا مطابخ عمومية، أقاموا نشاطات ثقافيّة سريّة مثل الحفلات الموسيقية والعُروض، وحرصوا على تطبيق الوصايا الدينية وقيَم الحضارة اليهوديّة. كتب اليهود في الغيتوات مذكّرات بهدف توثيق ما يمرّ عليهم وعلى المجتمَع اليهوديّ، وليخلّفوا وراءهم ذكريات للأجيال القادمة. ساعد النشاط الديني الكثيرين في أن يترفّعوا، ولو لفترات قصيرة، عن واقع الحياة القاسي. كما عرّض يهود كثيرون حياتهم للخطر ليُنقِذوا أفراد عائلاتهم أو غرباء، بينهم أطفال كانوا يهرّبون الطعام للغيتوات مُخاطِرين بحياتهم.
في كثيرٍ من الغيتوات، كانت هناك منظومة مرتّبة جدًّا للعمل اليهوديّ، بهدف خدمة المصالح الاقتصاديّة للألمان، والسكان المحليّين أيضًا، لكنها ساعدت أيضًا على الصمود الاقتصادي لسكّان الغيتو، وأحيانًا أيضًا على حماية العمّال من الهلاك.
في كثير من “الغيتوات العاملة” (Arbeitsgettos)، تركّز العمل داخل الغيتو، في المصانع والورشات التي أُقيمت فيه. الغيتو العامل الأكثر شُهرة هو غيتو لودج، الذي لم يخرُج معظم سكّانه منه للعمل اليومي تقريبًا. بنموذج مختلف عن الغيتوات العاملة، عمل كثيرون من سكّان الغيتوات خارج الغيتو، وكان العمّال يعودون إلى الغيتو للنوم ليلًا، وفي بعض الأحيان مرّة كلّ بضعة أيّام أو أسابيع فقط.
غيتو وارسو – الغيتو الأكبر
أقام النازيون في العاصمة البولندية وارسو أكبر غيتو في أوروبا. قبل الحرب، كان عدد اليهود في وارسو 375 ألفًا، أي نحو 30 في المئة من سكّان المدينة. أمّا بعد استسلام بولندا في أيلول 1939، فقد عانى يهود وارسو من تعذيب وحشيّ، وجُنّدوا للقيام بأعمال قسريّة. وفي تشرين الثاني 1939، نُشرت الأحكام الأولى ضدّهم، وأُلزموا بوضع شريط أبيض على ذراعهم مع نجمة داود زرقاء. أدّت مجموعة من الخطوات ذات الطابع الاقتصادي إلى فقدان مصدر الرّزق والقدرة على إعالة عائلاتهم.
أُقيم في وارسو مجلس يهوديّ. وفي وقتٍ لاحق، في تشرين الأول 1940، نُشر إعلان عن إنشاء غيتو لسكّان المدينة اليهود. أُغلق الغيتو في 16 تشرين الثاني 1940. كان الغيتو يشغل 2.4 في المئة فقط من مساحة المدينة. وقد زاد اللاجئون الذين طُردوا إلى وارسو من البلدات والقُرى المجاورة عدد المسجونين إلى 450 ألفًا. فُرض على اليهود أن يبنوا بأنفسهم السور الذي أحاط بالغيتو، وجرى فصلهم عن العالَم تحت حراسة مشدّدة وعنيفة. تراوحت حياة الجمُوع داخل الغيتو بين صراع عنيد للبقاء وبين موتٍ جرّاء المرض والجوع. في وارسو أيضًا، كانت الكثافة كبيرة جدًّا. فقد سكن ستة إلى سبعة أشخاص في غرفة واحدة، وكانت حصص الطعام تساوي في قيمتها الغذائيّة عُشر السعرات الحرارية التي يحتاجها الإنسان يوميًّا. كانت النشاطات الاقتصاديّة في الغيتو قليلة، وفي معظمها غير شرعيّة من وجهة نظر الألمان، لا سيّما تهريب الطعام إلى داخل الغيتو. ورغم نشاط المؤسَّسات الجماهيرية اليهودية، وعلى رأسها المجالس اليهوديّة ومنظّمات المساعدة، مات في الغيتو خلال فترة وجوده أكثر من 80 ألف يهوديّ.
لكنّ أسوار الغيتو والعزل لم تَشُلّ العمل الحضاري لسكّانه، ولم تثنِ ظروف الحياة القاسية المثقفين عن القيام بنشاطهم. فضلًا عن ذلك، دفع الاحتلال النازي والطرد إلى الغيتو أدباء ومثقّفين إلى التعبير عن الانكسار الذي حلّ بهم. تواجدت في الغيتو مكتبات سريّة وأرشيف سريّ. جدّدت الحركات الشبابيّة نشاطها، وتجدّد نشاط الفرَق السمفونيّة.
بدأ في تموز 1942 النفي إلى معسكر الإبادة تريبلينكا. وحين وصلت أوامر النفي الأولى، رفض آدم تشرنياكوف، رئيس المجلس اليهودي، إعداد لائحة بالذين سيجري نفيهم، قبل أن ينتحر في 23 تموز 1942.
حقائق عن غيتو وارسو
قبل الحرب العالمية الثانية كان تعداد السكان اليهود في وارسو 378,000 نسمة أي كانوا يشكلون نحو 30% من سكان المدينة. وبعد اندلاع الحرب وقبل إقفال الغيتو وصل إلى المدنية نحو 90,000 لاجئ يهودي. واحتُجز في الغيتو نحو 460,000 يهوديا. وتم تركيز نحو 30% من سكان المدينة في 2.4% من مساحة المدينة – نحو 3.5 كيلومتر مربع.
وأقيم الغيتو في الجزء الأفقر من المدينة والأكثر تزعزعا والذي يعاني من نقص في البنى التحتية. كانت الظروف المعيشية في الغيتو مروّعة: تمت مصادرة ممتلكات اليهود قبل انتقالهم إلى الغيتو وكانوا قادرين على أخذ بعض الأغراض والملابس معهم فقط. كان الاكتظاظ في الغيتو كبيرا لدرجة كان يسكن 7 حتى 10 أفراد في غرفة صغيرة.
ووصل التخصيص الكالوري اليومي للشخص حتى 184 كالوري يوميا – أي ظروف مجاعة حادة. وبسبب الجوع، ظروف النظافة المتدنية والوباء، انخفض في نهاية عام 1941 عدد اليهود في الغيتو إلى 415,000 وفي صيف عام 1942، قبل طردهم إلى معسكر الإبادة، تريبلنكا، انخفض هذا العدد ووصل إلى 380,000.
بين عامي 1940-1942، توفي في الغيتو نتيجة الجوع أو المرض نحو 80,000 يهوديا. بتاريخ 22 تموز 1942 بدأ الألمان بطرد اليهود من الغيتو إلى معسكر الإبادة، تريبلنكا. وقُتل خلال 7 أسابيع في المعسكر نحو 265,000 يهوديا. قُتل نحو 10,000 يهودي في الغيتو ذاته وأرسِل الكثيرون إلى معسرات العمل.
وبعد طرد اليهود، بقي في الغيتو نحو 55,000 يهوديا (35,000 منهم بمصادقة ألمانية ونحو 20,000 من دون أوراق “رسمية”). وبدأ الألمان بالقضاء على الغيتو بتاريخ 19 نيسان عام 1943 وبهذا التاريخ بدأت انتفاضة غيتو وارسو.