كنت طالبا جامعيا شابا عندما بحثت عن مصادر حول الهولوكوست لكتّاب عرب ليسوا فلسطينيين بالضرورة. بحثت جاهدا عن مصادر في مكتبة جامعة حيفا ووجدت ثلاثة حتى أربع كتب فقط. عندها أدركت أن هذه الكارثة اختفت من الوعي العربي الوطني، ولم يحدث ذلك صدفة.
ومع مرور الوقت، أدركت أن هناك هدفا لتجاهل الكارثة أو الحط من أهميتها،، مثلا، التشكيك في حجم الضحايا. “لا يمكن أن نصدق أن الكارثة أسفرت عن مقتل ستة ملايين شخص”، قال متحدثون عرب، “كان عددهم مليون ونصف المليون على الأكثر”. وحاول آخرون الانضمام إلى محاولات الإنكار في أوروبا، وبرز هذا التوجه بشكل خاص في لبنان عندما سعت جهات في لبنان كانت تشكك في هذه الكارثة وتنكرها إلى عقد مؤتمر في بيروت قبل نحو عقد. أعرب محمود درويش وإدوارد سعيد عن استيائهما ضد هذا المؤتمر ورسالته. بكلمات أخرى، إلى جانب الوعي العربي الضئيل والخاطئ فيما يتعلق بالهولوكوست، هناك وعي، لا سيما بين الفلسطينيين، حول تأثير الهولوكوست في الشعب اليهودي، التاريخ البشري بشكل عام، وفي التاريخ المعاصر بشكل خاصّ.
تطرق كل من محمود درويش، إدوارد سعيد، عزمي بشارة، وإميل حبيبي بطريقته الخاصة إلى الهولوكوست، ولم يعربوا عن معارضتهم لوجهة النظر الإسرائيلية اليهودية، بل تطرقوا إلى الموضوع من وجهة نظر مستقلة لمفكرين مطلعين على الموضوع. لقد اعتقدوا أن التطرق العربي والفلسطيني إلى الهولوكوست يشكل خسارة تاريخية وأخلاقية، وناشدوا التطرق بشكل متحرر أكثر إلى هذه الكارثة، التعامل معها بشكل إنساني، واعتبارها حدثا هاما يتعدى حدود القارة الأوروبية بشكل خاص والعصر الحديث بشكل عام.
ولكن هذا التوجه لم يُحدث انطلاقة في التعامل العربي مع هذه المأساة بشكل عام. لقد حدثني صديق من أيام الدراسة، الذي كان خلال خدمته العسكرية في الجيش الإسرائيلي مسؤولا عن مرافقة بعثات أردنيّة إلى إسرائيل والعكس أيضا، في إطار اتفاقية السلام، عن زيارة ضباط أردنيين إلى متحف الهولوكوست “ياد فاشيم”، وعن رد فعلهم وتأثرهم العميق. لم تكن هذه المعلومات جديدة لي. فبعد أن كتبت عن الموضوع في الصحف العربية المحلية والأوروبية، تلقيت ردود فعل مثيرة للاهتمام من مفكرين فلسطينيين وعرب طالبوا بمعرفة المزيد وحثوني على الكتابة أكثر لإيقاظ الضمير العربي الجماعي حول الموضوع. عندها أدركت أنه لا يسود الصمت حول الموضوع فحسب، بل يحظر طرحه. ما زال هذا الحظر سائدا، وهو يمنع إدارة حوار عربي حر حول كارثة الهولوكوست، على الأقل، كما عرفها العالم والبشرية.
بين حين وحين تنشر وسائل إعلام عربية أخبارا تقول إن حماس تعارض تعليم موضوع الهولوكوست في المدارس الفلسطينية. وتشهد على ذلك حادثة البروفسور الفلسطيني محمد الدجاني، وهو محاضر في جامعة القدس، حيث اضطر إلى الاستقالة من منصبه والهجرة إلى الولايات المتحدة بعد تعرضه لضغوط، تهديدات، ومضايقات بعد أن رافق 28 طالبا جامعيا من طلابه وزاروا معسكر “آوشفيتس بيركناو”. وفق أقواله، لم يعد الوضع محتملا بعد تلك الزيارة، فاضطر إلى الاستقالة من عمله في الجامعة.
تشير هذه الحادثة إلى تعامل القيادة العربية والفلسطينية مع الهولوكوست، وإلى مصير كل من يحاول التطرق إلى الموضوع ودراسته كما حدث للبروفسور الدجاني. أعتقد أن التعامل الفلسطيني تشكل على نحو بتأثير الصراع المستمر، ومن حقيقة أن الاحتلال وأضراره ما زالت مستمرة. في كتابي الذي صدر عن دار النشر التابع لمعهد “فان لير”، كنت أوضحت، من بين توضيحات أخرى، أن الفلسطينيين يعتقدون أن الاعتراف بكارثة الهولوكوست وأهميتها التاريخيّة لدى اليهود يشكل اعترافا جارفا بالرواية الصهيونية عن الصراع. في الحوار الفلسطيني العام، ترتبط هذه الكارثة بهجرة اليهود إلى موطنهم، فلسطين، رغم أن الصهيونية بدأت في القرن التاسع عشر. من هنا يتبين أن الاعتراف الفلسطيني بالهولوكوست يزعزع الرواية الفلسطيني. أي أن التطرق الفلسطيني إلى الهولوكوست يقتصر على الحوار الصهيوني حول الكارثة تماما ويستجب له.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن نلاحظ في المصادر الفلسطينية الشحيحة حول الهولوكوست والتصريحات في شبكات التواصل الاجتماعي أن هناك عائقا فلسطينيا، عاطفيا، عميقا، يعود إلى حقيقة أن إسرائيل واليهود لم يعترفوا حتى الآن بالنكبة، أو بمسؤوليتهم حول نكبة الفلسطينيين. يدعي فلسطينيون كثيرون أنهم سيعترفون بالهولوكوست بعد أن يعترف اليهود بمسؤوليتهم عن النكبة الفلسطينية. لقد رأينا تصريحات شبيهة في صفحات الفيس بوك، وجدالات حول مناشدة عضو الكنيست، أيمن عودة، رئيس القائمة المشتركة، المواطنينَ العرب في إسرائيل أن يقفوا وقفة حداد لذكرى ضحايا الهولوكوست. يتبين أنه يصعب على الفلسطينيين التطرق إلى كارثة الهولوكوست رغم أنهم مطلعون عليها، والسبب لذلك هو الصدمة الجماعية الفلسطينية الشخصية.
في الماضي، في عشية ذكرى الهولوكوست الدولية، شكلت تصريحات محمود عباس العلنية محاولة لفهم الهولوكوست وبث رسالة إلى الشعب اليهودي في إسرائيل، أنه بصفته رئيسًا فلسطينيا، يتضامن مع الألم والمأساة الكبيرين اللذين لحقا باليهود، لا سيما بضحايا الهولوكوست. ما زالت هذه التصريحات تشكل خطوة صحيحة وهامة رغم أنها جاءت في وقت متأخر.
يتعين على القيادة الفلسطينية أن تكون جريئة وتخترق الحاجز العاطفي، النفسي، والسياسي، الذي يشكل عائقا في تصحيح الخطأ التاريخي الذي اقترفته السياسة الفلسطينية، التي لم تجرأ على التطرق إلى الهولوكوست، وحتى أنها أنكرت حدوثها أو قلصت من أهميتها. لقد استجاب عباس للتحدي الذي وضعه المفكرون الفلسطينيون وسعوا إلى العمل عليه، متطرقا إلى الهولوكوست، أملا أن يُحدث تغييرا جذريا في التوجه السياسي والثقافة الفلسطينية. أعتقد أن فهم كارثة الهولوكوست وتحليلها بجرأة – كما لم يفعل الكثير من اليهود حتى الآن – سيساعدان الفلسطينيين على فهم الجينوم الإسرائيلي – اليهودي في هذا المجال. في حال اتخذ الفلسطينيون هذه الخطوة المميزة فسيستفيدون أخلاقيا وسياسيا.
المقالة مترجمة من موقع منتدى التفكير الإقليمي حيث ظهرت لأول مرة باللغة العبرية