تصل عملية “الجرف الصامد”، التي دخلت يومها الرابع، إلى مفترق قرار في غاية الأهمية، وذلك بعد عدة أيام أطلق فيها الفلسطينيون قذائف كثيرة تجاه البلدات الإسرائيلية، وبالمقابل يقصف سلاح الجو الإسرائيلي أهدافًا كثيرة في قطاع غزة.
بدأت الحملة بهدف إسرائيلي واضح: إيقاف إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل، وتتجه كل القرارات الإسرائيلية نحو هذا الهدف. حتى قبل بدء الحملة، مع تدهور الوضع الأمني، كانت تأمل إسرائيل أن تتدخل مصر وتحاول إرساء الهدوء في المنطقة، لكن الأمل تبدد، ويبدو أن ذلك بسبب الصلابة الكبيرة لحكومة عبد الفتاح السيسي ضدّ حماس، التي لها علاقة قوية بالإخوان المسلمين.
مع بدء الحملة، بدأ الفلسطينيون بإطلاق القذائف المعرّفة “بالمدى المتوسط”- وهذه قذائف لا يجرؤ مطلقو القذائف في قطاع غزة على إطلاقها في الأيام العادية، وهي تصل إلى مدن مثل تل أبيب، ريشون لتسيون، القدس وأماكن أخرى التي لا تشعر بالتوتر في الأيام العادية. هذا على النقيض من القذائف التي تصل إلى البلدات حول قطاع غزة، على رأسها سديروت، التي تعاني من القذائف اعتياديًّا.
وتشكل القذائف “ذات المدى المتوسط” معضلة مثيرة. على النقيض من الراجمات وقذائف القسام قصيرة المدى- من الصعب على سلاح الجو الإسرائيلي إصابة منصات القذائف والقضاء عليها، إذ أن معظمها يُطلق من منصات تحت الأرض أو من ساحات بيوت في مناطق كثيفة.
من الناحية الأخرى، على عكس القذائف “القصيرة”، فإن أغلب هذه القذائف لا تسبب ضررًا لأنها تسقط على مناطق مفتوحة، أو تصدها “القبة الحديدية” التي تعمل ضدّها بنجاعة كبيرة بسبب الوقت الطويل التي تبقى فيه في الجو (أكثر من دقيقة، على عكس الـ 15 ثانية من القذائف باتجاه سديروت)، الذي يمكّن “القبة الحديدية” من حساب مسارها بدقة وبذلك صدها وهي في الجو. الضرر الكبير الذي تسببه هذه القذائف هو أخلاقي: مع كل إطلاق كهذا يتراكض ملايين الإسرائيليين نحو الملاجئ ويقطعون مجرى حياتهم العادي لدقائق.
مع صعوبة القضاء على هذه القذائف، يقف المجلس الوزاري الإسرائيلي الأمني المصغّر للشؤون الأمنية والسياسية على مفترق طرق: لم تنجح إسرائيل في حسم إطلاق الصواريخ، وحماس وباقي المنظمات في القطاع قادرة على متابعة إطلاق القذائف نحو إسرائيل لمدة أطول.
لذلك، هناك ثلاث إمكانيات أمام إسرائيل: الأولى هي الاجتياح البري لقطاع غزة. ولقد صادق المجلس الوزاري المصغّر على تجنيد 40,000 جندي احتياط، وبدأت فرق عسكرية كاملة بالتجمع حول قطاع غزة وتستعد للاجتياح البري.
الهدف من الاجتياح هو الوصول إلى منصات الإطلاق التي لا يمكن القضاء عليها من الجو، وذلك للقضاء عليها وإزالة خطر القذائف. من الناحية الأخرى، يمكن معرفة كيف سيبدأ التوحل في “المستنقع الغزّي”، كما يعرّفه الجمهور الإسرائيلي، لكن من الصعب تقدير كيف ينتهي، هل ستنجح إسرائيل في إيقاف إطلاق القذائف نحوها وأي ثمن بشري سيكلف ذلك الجيش الإسرائيلي؟ هناك انقسام بين أوساط الجمهور الإسرائيلي، الذي يدعم أغلبه استمرار الحملة، حول إذا كان يجدر دخول قوات برية لقطاع غزة أو إتاحة الفرصة لسلاح الجو لإكمال عمله.
أما الإمكانية الثانية التي تقف أمام المجلس الوزاري فهي تصعيد عمليات سلاح الجو. والذي لم يتوقف عن مهاجمة الأهداف في قطاع غزة، ولقد هاجم حتى الآن في أيام القتال الثلاثة الماضية ما يقل عن 860 هدفًا مختلفًا. تشكل هذه الأرقام الأرقام الأعلى من أي حملة عسكرية أخرى.
يأمل الداعمون للإمكانية الثانية أن ينجح سلاح الجو في النهاية في تدمير كل منصات الإطلاق، أو على الأقل أن يُسبب تصعيد هجماته بأن يتوسل الفلسطينيون إلى إسرائيل لإيقاف هجماتها. ويعود نداء التوسل هذا من الفلسطينيين إلى مدى صمودهم وقدرتهم على استمرار امتصاص هجمات سلاح الجو.
والإمكانية الثالثة، التي لا تبدو راجحة في الوقت الآنيّ، فهي السعي الفوري لوقف إطلاق النار والعودة لتفاهمات “عمود السحاب” من تشرين الثاني 2012. مع تدهور الوضع، وقبل بدء الحملة، كانت تأمل إسرائيل من مصر أن تتوسط بين الجانبين، لكنّ هذا الأمل تبدّد طبعًا. رسميًّا، إسرائيل لا ترجّح هذه الإمكانية، لكن في محادثة أجريت الليلة بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وبين رئيس الولايات المتحدة، باراك أوباما، اقترح الأخير التوسط ومحاولة التوصل إلى اتفاق.
يمكن الافتراض أنه إذا أبدت حماس استعدادها لوقف فوري لإطلاق النار، فستوافق إسرائيل على فعل ذلك. لكن من الصعب الافتراض أن حماس ستفعل ذلك، وستطلب أحد الشروط التالية إن لم يكن أكثر، لوقف إطلاق النار: أولا، ستطلب إطلاق سراح نشطاء حماس الذين أطلق سراحهم في “صفقة شاليط” واعتقلوا مجددًا في حملة “إعادة الإخوة” في الشهر الأخير. لقد قال هذا مسؤول حماس، محمود الزهار، في مقابلة لقناة الأقصى ليلة أمسِ.
ثانيا وثالثا، ستطلب حماس تحويل الرواتب لـ 40,000 من ناشطيها (أبدت قطر استعدادها للدفع، لكن مصر وإسرائيل تمنعا إدخال هذه الأموال إلى قطاع غزة)، وكذلك ستطلب فتح معبر رفح، المغلق منذ مدة طويلة وفي الأيام الأخيرة فُتح من أجل نقل المصابين. إسرائيل غير متحمسة لهذه الإمكانيات، إذ أن قسطا كبيرًا من الأموال والتسهيلات مستغل لاستمرار تسليح حماس بالقذائف، لكن يمكن الافتراض أنه عند انتهاء الحملة، وعودة الهدوء، سيكون هذا أحد الشروط التي ستوافق عليها إسرائيل.