نعيش في أفضل الأزمنة وأسوأها في آنٍ واحد. نعيش في عصر العقل وعصر الجهالة على حدٍّ سواء. نعيش في عصر الثقة وعصر الشكّ في آنٍ معا. إنها أيّام نيّرة، وفي الوقت نفسه أيّام مظلِمة. إننا نعيش حياة وفرة وثراء، ولكن أيضًا حياة فقر وعَوَز.
لم يكن وضع الجنس البشريّ يومًا أفضل في أماكن كثيرة كاد الفقر والجوع يختفيان فيها. وإذا كان البشر يومًا يعملون ليحصلوا في نهاية اليوم على قوت يومهم، فإنّ معظم الناس في العالم الغربيّ اليوم يعملون ليشتروا نظّارات شمسيّة جديدة، سيّارة جديدة، أو طرازًا جديدًا من الآيفون. لا أحد بإمكانه أن يجادل في كون هذه الوفرة مُربِكة. فمن كلّ حدب وصوب، تصرخ المنتجات الاستهلاكيّة – أحدث الأجهزة، الثياب، السيّارات، الألعاب، وغيرها – داعيةً إيّانا إلى شرائها! إنها تصرخ عاليًا: اشترِني!
قرّرت مدونَتان إسرائيليتان في السنوات الماضية مواجهة تلك الظاهرة “للخروج من سباق الفئران المجنون” – كما تسمّيانه – الذي تفرضه علينا حضارة الاستهلاك الرأسمالية.
إليكم كلمة جديدة: “المُتكالِب”. المُتكالِب هو من يجعل نفسه كلبًا، أي يتنازل عن نمط الحياة التبذيري والشهوانيّ، لا يشتري أحذية جديدة، ولا ينفق أيّ قرش دون ضرورة، بل يعيش بأقلّ ما يُمكن. “المُتكالِب” هو أيضًا اسم مدوّنة إسرائيلية تنشط في السنوات الأخيرة، وتسدي نصائح عملية وظريفة لمواجهة غلاء المعيشة في إسرائيل.
خلف المدوَّنة رجل يُدعى عيدان كوهين، طالب جامعيّ سابق، يوضح الأسباب التي دفعته إلى إنشاء المدوَّنة: “المتكالب هو أسعد إنسان، لكونه يقوم بالتراجع خطوة عن سباق الحياة المجنون، ويعيش مثل الكلب. لا يؤمن المتكالِب بحضارة الاستهلاك. إنه يحتقرها. يحيا المُتكالِب حياةً بسيطة. ليس المُتكالِب بخيلًا، بل يعرف ماذا يشتري ومتى، وكيف يدَّخر – من أجل مُستقبلٍ أفضل”.
يتمتّع متابعو المدوَّنة بالكثير من النصائح، التي تُصاغ بشكل عامٍ على شكل قصصٍ مسليّة، تساعدك على العَيش في المدينة الكبرى (في حالة “المُتكالِب” – تل أبيب) دون المعاناة من عجز في الحساب المصرفيّ. لكن فضلًا عن النصائح مثل “كُلوا أقلّ”، “اشتروا ما تحتاجون إليه فقط”، و”اشتروا ما عليه تخفيض فقط”، يروي “المُتكالِب” قصّة إنسانٍ يحاول عدم الخضوع للضغط الذي لا يتوقّف لثقافة الاستهلاك، إذ يلازم بيته فيما يخرج جميع أصدقائه للاستجمام، ويبقى جائعًا فيما يملأ الجميع أطباقهم بالطعام.
ثمّة مَن يقول إنّ “المتكالِب” هو ببساطةٍ كسولٌ وربّما سارق أيضًا. في إحدى قصصه، يوضح كيف ذهب إلى المطعم ووضع في الصحن شعرةً اقتلعها من رأس صديقته. وحين تذمّر للنادل من الشعرة في صحنه، وافق النادل على عدم تقاضي ثمن الوجبة التي أكلَها. بخيل، لصّ، أم عبقريّ؟ القرار لكم.
“المتكالِب” ليس وحيدًا. فمن اللطيف التعرّف إلى التوأم الأنثوي والمتطوِّر لـ “المُتكالِب”، واسمها “الراسخة”. الراسخة، مثل اسمها، ومثل صديقنا المذكور آنفًا، تسعى إلى الحفاظ على العقلانيّة في عصرٍ رأسمالي. فكيف يفعل المرء ذلك؟ بالتقليص، والتوقّف عن العمل. نعم، كما قرأتم، التوقف عن العمل. فقد أحالت “الراسخة”، التي تقول إنها في ثلاثيناتها، نفسها إلى التقاعُد.
أوّلًا، توضح “الراسخة” أنه يجب الادّخار. وفي تقرير أوجزت فيه عام 2013، أجرت “الراسخة” حسابًا يُظهر أنّها تنفق كلّ شهر أكثر من 3873 شاقلًا (أي ما يعادل 1100 دولار أو 7700 جنيه مصري أو 4125 ريالًا سعوديًّا أو 790 دينارًا أردنيًّا) فقط للحفاظ على مستوى معيشة مرتفع.
في صفحة مدوَّنتها، توضح طريقة الحياة المميَّزة التي اختارتها: “لديّ ما يفتقر إليه رفاقي. لديّ وفرة من الوقت. لذا، أستثمر وقت فراغي في أمورٍ هامّة بالنسبة لي. فأنا أقوم بالتطوُّع، الرسم، النحت، ركوب الدراجات، ممارسة الرياضة، والسباحة، كما أعزف قليلًا، أرقص، أقرأ كتبًا، أكتب مدوّنة، أدرس لُغات، أدرس البرمجة، وبشكل خاصّ أحاول أن أكون الأفضل في ما أقوم به”.
طبعًا، ثمّة ثمن لذلك. فـ “الراسخة” لا عائلةَ لديها ولا أولاد. لقد اختارت هذه الحياة فقط. في نهاية المطاف، قامت بخيارها الخاصّ، وخرجت من السباق. فهل الثمن الذي تسدّده مقابل ذلك باهظ جدًّا؟ إذا سألتُموها، فإنّ إجابتها هي لا. لكن في العالم الذي يشجّعنا فيه محيطنا على الشراء أكثر وأكثر، ودفع أكثر ما يمكن من المال في الطريق نحو السعادة المستحيلة، فإنّ خيار “الراسخة” هو مثير للاهتمام على أقلّ تقدير.