عندما أقدّم عملي كمحاضر لدراسات الشرق الأوسط تكون ردة الفعل في أحيان كثيرة هي “ليس مملا لديكم”، بصيغة كهذه أو أخرى. وقبل أن يتّجه الحديث إلى أسئلة حول موضوع الصراع أو التهديد الإيراني، سأضيف بأنني مهتمّ بالتاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط. في أحيان كثيرة يوقف هذا الأمر المحادثة. في أحيان أخرى يتم سؤالي، رغم ذلك، عن رأيي كخبير في الأحداث الجارية. فإنّ كل “مستشرق” عليه أن يفهم في هذه الأمور، أليس كذلك؟
يبدو أنّ جزءًا من الإجابة نابع من تعريف اشتغالي بـ “التاريخ”. معظم الشعب في إسرائيل مهتمّ بما يحدث الآن ولا يتشاطر الرأي مع المؤرخين بأنّه من أجل فهم الحاضر فعلينا معرفة شيء من الماضي. إنّ محاولة المؤرخين في التفكير بما يحدث كجزء من سياق أوسع، بخلاف تقارير وسائل الإعلام عن “الأحداث”، يواجهها هو أيضًا أكثر من مرة بالدهشة، بما في ذلك في الدورات التي يعلّمها في الجامعة. ينبع جزء آخر من الصمت المطبق من قبل من يحاورني، في بعض الأحيان، من اشتغالي في اقتصاد الشرق الأوسط. يصنّف الكثيرون “الاقتصاد” كمجال مستقلّ ومتميّز عن “الاجتماعي” أو “السياسي”. يفهم الجمهور “الشرق الأوسط” كمجال يتطلّب خبرة في كلّ ما يتعلق بالإسلام، وأنّ ما يربطه بالمجالات الأخرى من النشاط البشري ليس واضحا تماما.
https://www.youtube.com/watch?v=CyxtAQ3bmX0
ولكن، هل يمكن حقّا أن نفهم ما يحدث في المنطقة دون التطرق إلى الاقتصاد، في بعض الأحيان على الأقلّ، وفي فهم تأثير العوامل الاقتصادية على الواقع المتغيّر في المنطقة؟ على سبيل المثال، هل يمكن تفسير صعود تنظيم داعش وسرّ قوته العسكرية دون فهم نموّه على أساس الموارد التي مصدرها تهريب النفط؟ كانت الدولة العراقية المتفكّكة، التي يعمل داعش من داخلها، نتيجة لصراع إمبراطوري من أجل السيطرة على مصادر النفط، وهكذا هو أيضًا الصراع المدني – العسكري فيها اليوم. في سورية، فإنّ المساعدات المالية الكبيرة من قبل دول الخليج للمعارضة التي تقاتل الأسد هي عامل مهمّ يفسّر استمرار المعارك. ويعود أصل الحرب الأهلية في ليبيا إلى الصراع على تقسيم عائدات النفط. من جهة أخرى، فإنّ تقسيم عائدات النفط كوسيلة سياسية لشراء الاستقرار المدني يفسّر لماذا تجنّبت أحداث السنوات الأخيرة دول النفط الخليجية (باستثناء البحرين، التي لم تعد مصدّرة مهمّة للطاقة). تشير كل هذه الأمور إلى لعنة النفط السياسية: بدءًا من تكريس الأنظمة العربية الموجودة، وصولا إلى تمويل الحروب الأهلية والحركات المتطرّفة.
اقتصاد “الربيع العربيّ”
في السنوات الأخيرة، نعيش تأثير “الربيع العربي” على منطقتنا. في إسرائيل، كما هي الحال في إسرائيل، فإنّ القضية الرئيسية التي تشغل الإعلام هي آثار هذه الأحداث على أمن البلاد. وهكذا، فقد تعاونت إسرائيل ومصر الرسمية حتى ذلك الحين في مجموعة من الموضوعات، بما في ذلك التنسيق الأمني بخصوص حماس التي تسيطر على غزة، وأعرب محلّلون عن الخشية من أن يتضرّر هذا التعاون إذا ما جرى تغيير في الحكم بمصر. وقد أظهر محلّلون آخرون اتجاها آخر، أكثر بهجة، كان له داعمون أيضًا في الصحافة الدولية وفي مجتمع الباحثين في الشرق الأوسط حول العالم. عرض هذا التوجه “الربيع العربي” كاحتجاج أوسع ودعوة للدمقرطة التي من شأنها أن تجلب عهدا جديدا لمصر. رغم أنّ صعود الإخوان المسلمين قد فاجأ الكثيرين، إلا أنّ الكثيرين أشاروا إلى استعداد الإسلاميين لقبول قواعد اللعبة الديمقراطية كتغيير إيجابي في أوساط الإخوان. الأمر الذي غاب عن هؤلاء أيضًا هو حقيقة أنّ “الربيع العربيّ” كان بدرجة كبيرة ردّة فعل على مشاعر الظلم والحرمان الاقتصادي، وبأنّ التغيير الاقتصادي، المطلوب أيّا كان، لن يأتي كنتيجة فورية للدمقرطة. سقط الإخوان المسلمون لاحقا بعد ذلك بقليل، بشكل أساسيّ بسبب عدم قدرتهم على التغيير الاقتصادي السريع. كان الجيش المصري هو الذي أطاح بهم من الحكم، ولكن كان الأمر بدرجة كبيرة على خلفية خيبة الأمل الشعبية الواسعة من وتيرة التغيير. أقول بين قوسين إنّ حكم السيسي أيضًا يواجه في هذه الأيام التحدّي نفسه.
غزة والحصار الاقتصادي
انطلقت إسرائيل في الصيف الأخير في حرب أخرى في غزة، عملية “الجرف الصامد”، التي كانت، للوهلة الأولى، محاولة أخرى من أجل تحقيق الاستقرار في توازن الرعب مع حماس. كانت وسائل الإعلام مشغولة غالبًا في التقارير عن أحداث الحرب، عن الحالة في الجبهة الداخلية الإسرائيلية، ولاحقا عن محاولات وقف إطلاق النار. سعى القليلون إلى الوقوف على اعتبارات حماس في الخروج إلى حرب ستلحق فيها الفلسطينيون خسائر في الأرواح، إصابات وأضرارا في الممتلكات. أما من تطرّق لاعتبارات التنظيم فقد أشار غالبا إلى “طبيعة” التنظيم الإسلامي، المتطرف، وإلى الإرهاب كطريقة عمل لديه. وأشار آخرون إلى مشاركة جهات أخرى، من إيران ومصر حتى قطر، في اتخاذ قرارات حماس. لم يُشر معظم الصحفيين والمحلّلين، أو قلّلوا من أهمية الحقيقة، بأنّه منذ صعود حماس للسلطة عام 2007، تم فرض حصار بحري على غزة، وتضخّمت الأزمة الاقتصادية هناك بشكل كبير. كان أحد الاعتبارات الرئيسية لدى التنظيم في اختيار التوقيت هو ضرورة إنهاء الحصار، حتى لو بسعر باهظ لمواجهة إسرائيل، بسبب الضغوط الاقتصادية المتزايدة في القطاع وآثارها السياسية على استقرار حكمه.
لعنة النفط
ما هي الموضوعات الاقتصادية الرئيسية التي يُستحسن الاهتمام بها في محاولة فهم الأحداث الإخبارية في الشرق الأوسط؟ الإجابة على ذلك، باختصار، هي مركزية النفط في اقتصاد الشرق الأوسط، ومحاولة الإصلاح الاقتصادي في المنطقة، والذي هو قبل كلّ شيء التحرّر من الاعتماد على النفط وتنمية الموارد الاقتصادية البديلة والمستدامة.
منذ السبعينيات من القرن الماضي، مع انتقال العديد من اقتصادات الشرق الأوسط من الاعتماد على الزراعة إلى الاعتماد على النفط ومؤخرا أيضًا الغاز، كان للتغييرات في سوق الطاقة الدولية آثار فورية على اقتصاد المنطقة. رغم أنّه ليست جميع البلدان في المنطقة من مصدّرات النفط الكبرى، فإنّ تصدير كميات محدودة من الطاقة من دول أخرى في المنطقة، العائدات على نقل الطاقة (مثلا: في الأنابيب أو عن طريق قناة السويس)، الهجرة الاقتصادية لدول النفط، والاستثمارات والمدفوعات التي تأتي من دول النفط إلى دول أخرى، أنشأ كلّ ذلك اعتمادا إقليميا اقتصاديا على هذا المورد.
يؤثر صعود أو هبوط أسعار النفط على إيرادات الدولة، ومن ثمّ على الخدمات الاجتماعية التي تقدّمها لسكّانها. بالإضافة إلى ذلك، عادة ما يكون نطاق الخدمة العامة في دول الشرق الأوسط كبيرًا جدّا، حيث إنّ ضمان التوظيف في خدمة الدولة بالنسبة لأصحاب التعليم العالي شائع في العديد من البلدان. إن الأسئلة حول الظلم في التوزيع مرتبطة غالبا بعدم قدرة الدولة على توفير فرص العمل اللائقة ومستوى العيش الكريم لمواطنيها، وهذان مرتبطان جدّا بإيرادات الدولة من بيع الطاقة. يؤثر صعود أو هبوط أسعار النفط أيضًا على السياسية الإقليمية. ومن الأمثلة الواضحة لذلك، في السنوات الماضية، كان هناك تدخّل لقطر في ليبيا وفلسطين، ودعم السعودية للاقتصاد المصري واليمني والتدخّل الحالي لدول الخليج في الحرب الأهلية السورية. على صعيد الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، فإنّ كل اتفاق سلام مستقبلي سيستلزم بالتأكيد إعادة بناء مكثّف للاقتصاد الفلسطيني، وإنّ جزءًا كبيرا من الأموال المخصّصة لذلك يجب أن يأتي من دول النفط الغنية.
التحدّي الاقتصادي القادم
التحدي الاقتصادي الرئيسي لاقتصادات الشرق الأوسط هو البحث عن بدائل للنفط كمحرّك اقتصادي رئيسي، بالتأكيد على ضوء الهبوط الكبير في أسعار النفط في الآونة الأخيرة، وبشكل يضمن نموّا اقتصاديا مستقلّا مع مرور الوقت. في الماضي، قبل عصر النفط في اقتصاد الشرق الأوسط، سعت العديد من البلدان في المنطقة لتحقيق تنمية اقتصادية كهذه، بشكل أساسيّ من خلال التصنيع والمشاركة الكبيرة للدولة في الاقتصاد. وقد فشلت هذه المحاولات في معظمها. لاحقا، فشلت أيضًا الإصلاحات الاقتصادية النيو-ليبرالية، التي رأت وجوب تقليص تدخّل الدولة في الاقتصاد والخصخصة، بما في ذلك الخدمات التي وفّرتها الدولة لمواطنيها، فشلت هي أيضًا في معظم دول المنطقة ومثّلت الركيزة التي أشعلت الربيع العربيّ. التحدّي هنا هائل، حيث إنّ اقتصادات المنطقة بحاجة إلى توفير مستوى عيش وفرص عمل “معقولة” للمواطنين، وفي نفس الوقت، التنافس مع الاقتصادات الأخرى في العالم، ذات مستوى عيش وأجور منخفضة أكثر. من أجل فهم حجم التحدّي يجب أن نتذكّر بأنّ الشرق الأوسط ما زال في حالة “الزخم السكاني”؛ فبخلاف الصورة المنتشرة، تعيش المنطقة تباطؤًا كبيرا في الحجم السكاني بدءًا من الثمانينيات من القرن الماضي، ولكن معظم السكان في المنطقة هم من الشباب، وهم في المراحل الأولى من اكتساب التعليم والدخول إلى سوق العمل. في الوضع الاقتصادي الراهن، لم تستطع دول المنطقة إنشاء منظومة جيّدة للتأهيل المهني وسوق عمل بإمكانها استيعاب العمّال الجدد بشكل يضمن مستقبل الشباب الاقتصادي وقوة الاقتصاد. في معظم دول المنطقة ليست هناك قوة بشرية بإمكانها أن تنافس الاقتصادات النامية الرائدة؛ من حيث الأسعار، وأيضًا من حيث المهارات.
https://www.youtube.com/watch?v=7-QYnF78kZs
في الماضي، قبل الربيع العربيّ وخلاله، قيل كثيرا إنّ الدمقرطة ستسمح أيضا بالشفافية الاقتصادية، وستشجّع روح المبادرة وستحافظ على حقوق الملكية، ومن ثمّ ستؤدي إلى نموّ اقتصادي. تكمن المشكلة أنّه دون إيجاد أفق جديد للتوقّعات الاقتصادية لدى مواطني بلدان الشرق الأوسط، فسيكون التغيير السياسي صعبًا للغاية. بكلمات أخرى، فإنّ التغيير السياسي والتغيير الاقتصادي ضروريّان في آنٍ واحد، ومن هنا تأتي الصعوبة في تحقيقهما. فهما يتطلّبان جرأة وقوة سياسية بهدف إقناع بل وإجبار عدد كبير من السكان في بلدان المنطقة، بما في ذلك النخبة الاقتصادية – السياسية فيها، على الموافقة على الإصلاح الاقتصادي. من جهة أخرى، بماذا يمكن أن تَعِدَ اليوم قيادة دول المنطقة سوى بالتغيير الاقتصادي التدريجي بل والمؤلم بالنسبة لجزء كبير من السكان المحلّيّين؟ إنّ الاضطراب الإقليمي، على خلفية الحرب الأهلية في ليبيا، سورية والعراق، يزيد من احتدام هذه المعضلة، ومن هنا تأتي التوقعات المتشائمة جدّا بخصوص تنفيذ الإصلاح الاقتصادي والدمقرطة في دول المنطقة.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع Can Think