يتذكر كل إسرائيلي الهولوكوست بشكل مُختلف. بالنسبة للكثير من الإسرائيليين يُعتبر الهولوكوست ذاكرة شخصية، من خلال أفراد العائلة الذين عايشوا ذلك ويتذكرون الضحايا. لكن، بالنسبة لكثيرين آخرين، تحوّلت ذاكرة الهولوكوست إلى شيء رسمي وعادي، دون أي مشاعر أو شعور خاص. بالنسبة لهم، يتضمن يوم ذكرى الهولوكوست مشاهدة المراسيم الرسمية على التلفزيون، الوقوف عند إطلاق الصافرة، والعودة إلى الحياة العادية.
بهدف التعامل مع ظاهرة الفتور تلك والانفصال عن تلك الذكرى أُقيمت مُبادرة “ذاكرة في الصالون”. يجتمع آلاف الإسرائيليين، بدل المراسيم الجماعية والرسمية، التي فقدت جزءًا كبيرًا من أهميتها منذ سنوات طويلة، في مجموعات صغيرة مكوّنة من عشرات الأشخاص للاستماع من المصدر الأول لشهادات الناجين من الهولوكوست، بشكل مُباشر وحميمي.
يقول أصحاب المبادرة: “ذاكرة في الصالون” قد جاء على خلفية الإدراك بأن علاقتنا نحن آخذة بالتراجع. نحن هنا من أجل طرح حل بديل للمراسيم الرسمية
يقول أصحاب المبادرة إن السبب خلف إقامة هذه المبادرة: “ذاكرة في الصالون” قد جاء على خلفية الإدراك بأن علاقتنا نحن، أبناء الجيل الثالث، بعد الهولوكوست، آخذة بالتراجع. نحن هنا من أجل طرح حل بديل للمراسيم الرسمية والمشاهدة التقليدية للتلفزيون وإتاحة الفرصة أمام تواصل آخر. ندعوكم، في ليلة ذكرى الهولوكوست القريبة، إلى الانضمام والمساهمة باستضافة أو حضور ذاكرة في الصالون. نحن هنا لكي نساعدكم على جعل هذه الليلة ذات مغزى وبُعد أفضل”.
استمتعتُ، البارحة، في تل أبيب لشهادة يهودا ميمون، المولود عام 1924، الذي تحدث، أمام عشرات الشبان الذين اجتمعوا في بيت زوجين شابين في تل أبيب، عن حياته في ظل الحرب العالمية الثانية.
***
“عرفنا أننا لن نهزم الألمان، ولكننا فعلنا ما نستطيع لنكتب ثلاثة أسطر في التاريخ اليهودي: حارب اليهود ولم يمضوا إلى الذبح كالقطيع”
وُلد ميمون في مدينة كراكوف، ثاني أكبر المدن في بولندا، وبعد احتلالها من قبل الألمان، عام 1939، طُرد مع عائلته إلى حي الغيتو، الذي تم تجميع كل يهود المدينة فيه، وانضم إلى الحركة السرية اليهودية. قررت الحركة السرية، في عيد الميلاد عام 1942 وعندما بات واضحًا أن الألمان سيقومون بترحيل يهود المدينة إلى معسكرات الإبادة للقضاء عليهم، بأن تعلن التمرد.
وقال ميمون: “عرفنا أننا لن نهزم الألمان، ولكننا فعلنا ما نستطيع لنكتب ثلاثة أسطر في التاريخ اليهودي: حارب اليهود ولم يمضوا إلى الذبح كالقطيع”. حققت العملية نجاحًا كبيرًا، عندما تمكن أعضاء الحركة السرية من رمي قنبلة يدوية داخل مقهى كان يحتفل فيه الجنود النازيون. بعد أشهر من ذلك، وقع ميمون في قبضة الشرطة، تم التحقيق معه، ومن ثم إرساله إلى معسكر الإبادة في أوشفيتز.
تم توزيع سجناء مُعسكر أوشفيتز ما بين من تم فرزهم للقيام بأعمال شاقة وما بين الذين ينتظرهم الإعدام في غرف الغاز. أُصيب ميمون، بعد أشهر من وصوله إلى هناك، بالتهاب الرئتين وتم إرساله إلى العيادة. حسب قوانين المُعسكر، يحق لكل شخص 14 يوم نقاهة حتى يُشفى، ومن ثم يعود إلى الأعمال الشاقة. ومن لم يكن يتعافى خلال هذه الأيام كان يُقتل بالغاز.
حسب قوانين أوشفيتز يحق لكل شخص 14 يوم نقاهة حتى يُشفى، ومن لم يكن يتعافى خلال هذه الأيام كان يُقتل بالغاز. وأدرك ميمون بعد 13 يومًا من المرض بأنه تم تحديد مصيره
وأدرك ميمون بعد 13 يومًا من المرض بأنه تم تحديد مصيره. توجه للممرض الذي كان يُعالجه، وحدثه عن قصة الحركة السرية في كراكوف. قال ميمون: “طلبت منه أنه حين تسنح له الفرصة أن ينقل هذه القصة بعد انتهاء الحرب”. ذلك الرجل، الذي كان هو من الحركة السرية اليهودية أيضًا، أنقذ ميمون من عقوبة الإعدام وأعاده إلى العمل مُجددًا.
أدرك الألمان في كانون الثاني 1945 بأن الحرب أوشكت على الانتهاء، وأخرجوا سجناء أوشفيتز في مراسم “مسيرة الموت” التي تعني إبادتهم. استغل ميمون الفرصة، وهرب مع مجموعة من الأصدقاء إلى الغابات، إلى أن وصل إلى معسكر آخر. دخل ميمون في منتصف الليل إلى قاعة مليئة بالأسرة وطلب مكانًا ينام فيه. سمع صوتًا في الظلام: “من أنت”؟ وأجاب: “وماذا يُهم من أكون؟” أعطني مكانًا أنام فيه!” قام ميمون بتوجيه المصباح الذي كان معه باتجاه الرجل، وعرف حينها أنه شقيقه، الذي تركه خلفه في كراكوف، قبل ثلاث سنوات من ذلك.
أدرك ميمون أن طريقه يجب أن تقوده إلى إسرائيل، وهذا ما كان. كانت الطريق من أوشفيتز إلى إسرائيل طويلة جدًا، أطول من المسافة بين عام 1945 وعام 2015.
***
جلسنا طوال ساعة، 30 شابًا تقريبًا، أمام ميمون في الصالون الـ “تل أبيبي”. اعترى الصمت جميع من كانوا هناك، لم يتفوّهوا بأية كلمة، وكانت أنظارهم جميعًا تتركز على الرجل ابن الـ 91 عامًا الذي كان يحكي كيف نجا من الموت، مرة تلو الأخرى. أخبرنا في نهاية قصته كيف أنه في عام 1964، عندما كان أمين سر في السفارة الإسرائيلية في بولندا، زار القرية التي خبأه فيها البولنديون من وجه النازيين.
تقدمت من ميمون بعد المحاضرة، وسألته إن كان يعرف جدي، المرحوم يسرائيل شاحام، وهو يهودي بولندي، كان قد عمل في السفارة في تلك الحقبة. أضاء وجه ميمون، وارتسمت ابتسامة عليه، وقال: “بالطبع أعرفه!”.
اقتنعت أنه منذ هذا العام، وطالما ما زال الناجون على قيد الحياة، سأستمع إلى شهاداتهم بهذه الطريقة، ضمن مُبادرة “ذاكرة في الصالون”.