هناك دائما أكثر مما تراه العين المجردة في كل ما يتعلق بالجالية اليهودية في كردستان، وهي جالية متواضعة، صغيرة، ولكنها غنية بالتراث الثقافي المذهل، والتي يعيش نحو 150 ألف من أبنائها اليوم في دولة إسرائيل. ليس عبثا قال الباحث يوسف يوئيل ريفلين (وهو والد رئيس دولة إسرائيل رؤوفين ريفلين) إن: “ليس هناك منفى من منافي إسرائيل سجلّه قليل في التاريخ اليهودي كالمنفى في كردستان”.
جالية معزولة ومنقطعة
جالية يهود كردستان هي من الجاليات الأكثر قدما من بين جاليات الشعب اليهودي، وهناك من يقول إنّ أوائل اليهود قدِموا منذ أيام الهيكل الأول، والذي بقي على حاله حتى عام 586 قبل الميلاد. ولكن، وصل معظم اليهود إلى هناك كما يبدو في فترة النفي البابلي الكبير، والذي أنشأ الجالية اليهودية الأقدم في العالم في منطقة العراق في أيامنا.
فرضت الحياة في المناطق الجبلية والخطرة على يهود كردستان البعد والانعزال عن بقية الجاليات اليهودية، بل حتى عن جالية يهود بابل. قامت حولها الإمبراطوريات وسقطت، ولكن الطائفة اليهودية في كردستان حافظت على ثقافتها. بالإضافة إلى ذلك، خلال فترة كبيرة من التاريخ كانت الجاليات الكردية منقطعة عن غيرها بسبب ظروف المنطقة القاسية، والتي فرضت على كل جالية العيش في عزلة.
بشكل عام، فإنّ الكثير من المشاكل التي شغلت على مدى الأجيال اليهود الأكراد كانت مشتركة بين كل الأكراد. على سبيل المثال مسألة الفصل اللغوي. بشكل عام، كانت لغة يهود كردستان تشبه لغة المسيحيين الأكراد واستندت إلى الآرامية، بخلاف لغة المسلمين التي استندت إلى لهجات هندية إيرانية. ورغم أنّ جميع يهود كردستان تحدّثوا بشكل أو بآخر باللغة الآرامية، فقد تطوّرت لدى كل جالية لهجة خاصة بها تعكس لغة أبناء بيئتها وأصول سكان المنطقة العراقيين، الأتراك، السوريين أو الفُرس.
امرأة باسلة
إحدى الشخصيات الأكثر شهرة في التاريخ الكردي اليهودي هي عالمة الدين أسنات برزاني. قلّة هنّ النساء في تاريخ الشعب اليهودي اللواتي اكتسبنَ مكانة الفقيهة والحكيمة في الدين والكتب المقدسة كالعالمة أسنات، التي عاشت في القرن السابع عشر في الجالية الكردية في الموصل، في العراق اليوم.
درّست أسنات بل وأدارت مدرسة يهودية أقامها والدها، الحاخام شموئيل برزاني. كتبت تفسيرا لسفر الأمثال من الكتاب المقدس، ولكن هذا التفسير قد ضاع على مرّ السنين. تقول الأسطورة إنه لكون أسنات تلميذة ذكية فقد أنقذت كنيسها من الحريق عندما استخدمت تعويذات سرية، ودعت ملائكة الله لإطفاء الحريق.
الزراعة والتمائم
حتى بداية القرن العشرين لم يكن التعليم في كردستان متطوّرا في أوساط اليهود، والذي كان الكثير منهم مزارعين. بخلاف الجاليات اليهودية الأخرى والتي كان حاخام الجالية فيها مسؤولا عن تعليم الفتيان منذ سنّ صغيرة، فقد عمل الحاخامات الأكراد أيضًا كذبّاحين، مطهّرين (حتى في بيوت المسلمين) وككاتبي التمائم، مما لم يترك لديهم وقتا للتعليم. فقط بعد أن بدأت الشبكات التعليمية الصهيونية بالعمل في أوساط اليهود في جميع أنحاء العالم، بدأت غالبية يهود كردستان بالحصول على التعليم المنظّم.
وممّا يثير إعجابا كبيرا هو تمسّك اليهود الأكراد بالعمل في الأرض، وهو الأمر الذي يفتقر إليه اليهود في المنافي الأخرى. قال رئيس دولة إسرائيل الثاني، يتسحاق بن تسفي، إنّ “يهود كردستان هم القبيلة الوحيدة في شعب إسرائيل التي حافظت حتى اليوم على أسس الزراعة بشكل كبير”. إلى جانب ذلك، كان يهود كردستان معروفين في أعمال التطريز والنسيج الخاصة بهم.
كما وأكثر اليهود الأكراد من استخدام التمائم المختلفة، وبشكل أساسي الصلوات التي كُتبت على ورقّ من جلد الغزال. حمل الكثير من الأكراد اليهود تمائم ضدّ عين الحسد وكوقاية من الأمراض وهجمات الأعداء. واشترى الأكراد المسلمون أيضًا تمائم من الكتّاب اليهود، لأنّ قوتهم كانت معروفة للقاصي والداني.
الأكراد في إسرائيل
يقول الأكراد في إسرائيل اليوم إنّ علاقتهم بالسكان اليهود في أرض إسرائيل كانت دائما قوية، ويذكّرون بموفدين ذهبوا إلى كردستان من القدس، من طبريا ومن صفد منذ القرن السابع عشر. وقد استثمر الكثير من اليهود الأكراد أيضًا مبالغ مالية من أجل أن يُدفَنوا في أرض إسرائيل.
وقد بدأت الهجرة الجماعية ليهود كردستان إلى إسرائيل منذ أن كانت الصهيونية لا تزال في بدايتها، قبل الحرب العالمية وقبل وعد بلفور. شق الأكراد من منطقة أورمية، تبريز، وديار بكر طريقهم إلى إسرائيل. وفي الثلاثينات من القرن العشرين تم الحديث عن قرى كاملة في كردستان غادرها جميع اليهود الذين كانوا بها من أجل الاستقرار في إسرائيل.
بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، ومع عملية الهجرة “عزرا ونحميا” عام 1952، والتي هاجر فيها 125,000 يهودي من العراق إلى إسرائيل، هاجر جميع يهود كردستان العراقية إلى إسرائيل. وقد هاجر في أعقابهم أيضًا الكثير من يهود كردستان الإيرانيين بل والكثير من الأكراد الذين في تركيا.
ورغم أنّ اليهود الأكراد قد استوعِبوا جيّدا في دولة إسرائيل واندمجوا في جميع مجالات الحياة، فإنّ الطائفة الكردية متمسّكة جدّا بثقافتها. إحدى المناسبات الرئيسية في هذا السياق هي احتفالات الـ “سهرنا”، والتي تم الاحتفال بها في الربيع كاحتفال يوازي لعيد النوروز الإيراني. في دولة إسرائيل، يُحتفل بالسهرنا في شهر أيلول، بموازاة عيد العرش اليهودي. تشتمل الاحتفالات، من بين أمور أخرى، على الغناء والرقص، العزف على الطبلة والناي، الخروج الجماعي إلى المتنزّهات والحدائق، والولائم الكثيرة.
أحد الأمور الذي يميّز الطائفة الكردية في إسرائيل هو مأكولاتها المذهلة واللذيذة، وعلى رأسها الكبّة، الأرز مع الأوراق الخضراء، وورق العنب المحشوّ.
ومن الجدير بالذكر أنّ الكثير من الأكراد في إسرائيل يحافظون على ولائهم لكردستان، ويتمنّون من قلوبهم مجيء اليوم الذي سيحقق فيه الشعب الكردي استقلاله بعد سنوات طويلة من الاضطهاد.
https://youtu.be/3BSy4CyIrPg?list=PLE6292D3C72282A47