عندما وجهت لي دعوة من الخارجية الإسرائيلية لزيارة إسرائيل ضمن وفد من الصحفيين والإعلاميين العرب المقيمين في أوروبا؛ لم أتردد في قبول تلك الدعوة، والتي تهدف إلى إتاحة الفرصة لنا كصحفيين وإعلاميين للتعرف بحرية على مختلف نواحي وأوجه الحياة داخل دولة (إسرائيل)، تلك الدولة التي تقع في قلب منطقة الشرق الأوسط، والتي هي إحدى مراكز الصراع في المنطقة، بل تحوز على اهتمام كبير لدى الشعوب المجاورة.
وقد دفعني الفضول لمعرفة كيفية تشكيل هذه الدولة وكيفية إدارتها؛ لأنه، وبالرغم من أن العالم أصبح قرية صغيرة نتيجة التقدم الهائل في وسائل الاتصال والتواصل والمعرفة، فإن التشويش والتشويه الذي تتعرض له إسرائيل في وسائل الإعلام العربية؛ يجعل من الصعب على المواطن العربي فهم حقيقة هذه الدولة التي تقع في قلب المنطقة.
وتمثل المشكلات المستمرة والمتكررة في الضفة الغربية وقطاع غزة مصدر قلق للكثير من العرب، لكن وسائل الاعلام في كثير من الأحيان تخلط ما بين السياسة الخارجية لدولة إسرائيل وما بين واقع الحياة داخلها. وغالبا ما تنتج وسائل الاعلام هذه رؤى بائسة عن الحياة داخل إسرائيل.
ما سأكتبه في السطور القادمة لا يمكن وصفه بأنه مقال أو تحليل؛ وإنما هو بمثابة شهادة حية مستقاة من الواقع الذي رأيته بعيني
ولهذا فإن ما سأكتبه في السطور القادمة لا يمكن وصفه بأنه مقال أو تحليل؛ وإنما هو بمثابة شهادة حية مستقاة من الواقع الذي رأيته بعيني، وفحصته بنفسي دون أي تأثير يذكر من أي شخص أو جهة. وآمل أن أقدم وجهة نظر بديلة ومختلفة عما تتناقله وسائل الإعلام العربية التي غالبا ما تقدم رؤية مبالغًا فيها عن واقع الحياة داخل إسرائيل.
طوال مدة الرحلة من مدينة روما إلى تل أبيب على متن خطوط شركة العال الإسرائيلية أخذت أفكر فيما ينتظرني، وماذا سأرى. وبالرغم من أنني كونت خلفية مسبقة عن إسرائيل، ولي أصدقاء هناك بحكم عملي؛ فإن المخزون والرواسب النفسية المتراكمة بداخلي منذ أن كنت طفلاً بالمدرسة خلال مراحل حياتي المتعاقبة في مصر مرت بذاكرتي، وأخذت أتساءل أين تكمن الحقيقة، هل فيما أعرفه، أم فيما كانوا يخبروننا به في صغرنا حتى تربينا على الإيمان به؟ هل سيكرهني الإسرائيليون، ومن ثم، سيسيئون معاملتي عندما يعلمون بأنني مصري؟ وهل سأتعرض للإيذاء اللفظي أو البدني من بعضهم؛ إذا ما سمعني أحدهم أتكلم العربية؟
وسرعان ما خرجت من تلك الهواجس على صوت الرجل الذي كان يجلس بجواري مرفوقا بزوجته، عندما سألني بالعبرية عن شيء ما، ولم أفهمه، فأبلغته بالإنجليزية: “عفواً لا أتحدث العبرية”، فاعتذر، وسألني بالإنجليزية: “من أين أنت؟” فأجبته: “من مصر”، فوجدت منه، هو وزوجته ترحيبا شديدا مع ابتسامة صافية، وليست صفراء كما يقال عن الإسرائيليين واليهود في مدارسنا ومجتمعاتنا، وكما تعكسه أعمالنا الفنية من مسلسلات، وأفلام، وبرامج.
وصلت إلى تل أبيب -العاصمة الاقتصادية لإسرائيل- ولم أستطع أن أصدق أنني قد ابتعدت عن أوروبا، فشكل المطار وتجهيزاته، بل وكل شيء، بدا حديثا ونظيفا، ويدل بما لا يدع مجالا للشك بأنك في دولة من الدول المتقدمة.
بدأت رحلتي من مطار “بن غوريون” إلى مقر إقامتي ب “أورشليم – القدس” (العاصمة السياسية لإسرائيل)، وفي طريقي رأيت طرقات متسعة ونظيفة، مليئة بالأشجار والمناظر الطبيعية الخلابة. كنت أدون ملاحظاتي عن كل شيء، فأنا هناك في مهمة لنقل الحقيقة من داخل إسرائيل، قمت داخل القدس بزيارة وزارة الخارجية، والكنيست (البرلمان)، ومتحف ياد فاشيم -الهولوكوست الذي يخلد ذكرى الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون وأعوانهم، والتي راح ضحيتها ستة ملايين من الأبرياء الذين ليس لهم ذنب، سوى ديانتهم وهويتهم اليهودية.
لم أنس زيارة الأماكن الدينية، حيث لم يوقفني أو يمنعني أحد من أفراد الجيش أو الشرطة الإسرائيلية؛ مثلما يشاع
وقابلت شخصيات عربية وأخرى يهودية من أصول عربية؛ من عدة دول عربية، مستمعاً إلى ذكرياتهم عن حياتهم السابقة في العراق ومصر وغيرهما، وكيف خرجوا منها مجبرين بعد التعرض لتجارب مريرة نتيجة التحريض والكراهية، ورأيت كيف تجمعهم الحياة في صورة للتعايش، لا تعجب المخربين والمحرضين الذين لا يحبون الحياة والسلام، فيحرضون أبناءهم وذويهم على طعن وقتل الأبرياء، ويتاجروا بدمائهم بعد ذلك، ويزيفوا الحقائق بمساعدة الإعلام المأجور.
ولم أنس زيارة الأماكن الدينية، حيث لم يوقفني أو يمنعني أحد من أفراد الجيش أو الشرطة الإسرائيلية؛ مثلما يشاع. فبالرغم من تصاعد وتيرة التحريض والعنف من قبل المخربين؛ فإن المدينة المقدسة نابضة بالحياة والحيوية المستمرة طوال ساعات الليل والنهار، فهي لا تنام، حيث يقصدها الزوار من شتى بقاع الأرض.
وبعد قضاء يومين في القدس -أجمل مدن العالم- توجهت والمرافقين من الصحفيين والإعلاميين إلى “تل أبيب”، عاصمة التكنولوجيا والمال والأعمال، والتي يمكن تسميتها ب “نيويورك الشرق الأوسط”، إذ أذهلني تواجد كل هذا الكم الضخم من الشركات العالمية والمحلية العاملة في مجال تقنية الاتصالات والتكنولوجيا بفروعها المختلفة؛ حتى صارت تلقب ب “سيليكون فالي”.
لكن، وبعيداً عن الشركات والمكاتب المغلقة، فإن الحياة في تل أبيب حياة مليئة بالنشاط، حيث يترآى لك الناس صباحاً، وهم يمارسون رياضة المشي، والجري، وركوب الدراجات الهوائية في الأماكن المخصصة لذلك على شواطئ البحر، حيث أُعِدَّتْ لاستقبال الناس ليقضوا أوقاتا طيبة.
أما في الليل، فالمطاعم والمقاهي تعج بسكان المدينة والسياح القادمين من خارج إسرائيل، مما يتيح لك فرصة رؤية وجوه من مختلف مناطق العالم. وكما القدس، فإن تل أبيب مدينة دولية ترحب بالجميع، وتمزج بين مجموعة متنوعة من الأنماط الثقافية. إنها –بحق- ليست مركزاً للتجارة والأعمال فقط، بل هي مدينة ترفيهية أيضا، تستطيع أن تقضي بها وقتا جميلا، وأنت مستمتع بالبحر والجو والحداثة معا في آن واحد.
وفى مكان آخر، وهذه المرة من مدينة “حيفا” الساحلية الجميلة، زرت صرحا علميا كبيرا، وهو جامعة حيفا ذات المباني الشاهقة والمكتبات التي تحتوي على أكثر من مليونيْ كتاب ودورية وأقسام لذوي الاحتياجات الخاصة والمكفوفين.
زرت والتقيت مشايخ وعائلات درزية، واستمعت منهم إلى تجربة دمج الدروز في المجتمع الإسرائيلي
وقد لفت انتباهي مكتبة الأطفال الموجودة في قلب مكتبة الجامعة، والتي يأتون إليها بالأطفال؛ لتعليمهم كيفية البحث، ولغرس حب القراءة فيهم منذ الصغر، حتى يُنَمُّوا فيهم تلك الهواية والموهبة. وتعد جامعة حيفا نموذجا وانعكاسا للمجتمع في دولة إسرائيل، فالجامعة تجد فيها طلابا يهودًا وعربًا ودروز وشراكسة، مسلمين ومسيحيين ودروز وبهائيين وملحدين. الكل تتاح له الفرصة نفسها على قدر من المساواة، دون التفريق أو التميز بناءً على عرق أو دين
وفي حيفا دائما، وتحديدا في قرية “دالية الكرمل” الواقعة على جبل الكرمل؛ زرت والتقيت مشايخ وعائلات درزية، واستمعت منهم إلى تجربة دمج الدروز في المجتمع الإسرائيلي، فوجدتهم يفضلون أن يطلقوا على أنفسهم؛ وأن يناديهم الناس بالإسرائيليين، وليس عرب 48، حيث أكدوا بالقول على أنهم يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويلتحقون بجيش الدفاع الإسرائيلي، وأن إسرائيل تعاملهم بصفتهم مواطنين لهم كامل الحقوق، متسائلين: كيف يمكنهم بعد كل هذا؛ أن ينكروا إسرائيليتهم.
أخبروني بأن القانون في إسرائيل يطبق على الجميع دون تميز أو تفرقة على أساس الدين، أو العرق، أو اللغة، لأن المواطنة هي الأساس في التعامل
وفي المساء فضلت أن أخرج لتناول العشاء في الخارج، وذهبت إلى شارع “بن غوريون” الشهير المطل في بدايته على حدائق البهائيين الشهيرة، وفي نهايته ميناء حيفا الشهير، المليء بالمقاهي والمطاعم العربية، وبإمكانك أن تكتشف ذلك من خلال سماعك لصوت الأغاني وأحاديث الناس.
أخذت أتجاذب أطراف الحديث مع الموجودين من زبائن المطعم والعاملين به، وكان موضوعه عن أحوال العيش هنا، وهل توجد تفرقة بين المواطن من أصول غير يهودية والمواطن اليهودي، ووجدت الإجابات كلها بالنفي، وأخبروني بأن القانون في إسرائيل يطبق على الجميع دون تميز أو تفرقة على أساس الدين، أو العرق، أو اللغة، لأن المواطنة هي الأساس في التعامل.
أستطيع القول من وجهه نظري الشخصية: بأن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة والحقيقية في منطقة الشرق الأوسط بالكامل
وفي النهاية، وبعد التنقل لمدة خمسة أيام بين القدس وتل أبيب وحيفا، وبعد زيارات لمؤسسات رسمية للدولة، وأخرى أهلية ومجتمعية، وبعد زيارة مؤسسات تعليمية، والاستماع إلى مختلف شرائح المجتمع الإسرائيلي المختلفة من يهود وعرب ودروز وبدو، بديانتهم وخلفياتهم المختلفة من مسلمين ومسيحين ودروز وبهائيين وحتى الملحدين، أستطيع القول من وجهه نظري الشخصية: بأن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة والحقيقية في منطقة الشرق الأوسط بالكامل، لأني رأيت كل الأقليات والديانات والمعتقدات في هذه الدولة تتمتع بحرية العقيدة والتعبد، ولأني استمعت في مناطق مختلفة لصوت الآذان نابعا من الجوامع، وهو الذي يُمنع في أوروبا، ولأني رأيت المسيحيين يتقلدون الصلبان على صدروهم دون خوف من كشف هويتهم، مثلما يحدث في الدول المجاورة، ولأني رأيت البهائيين، وقد خصصت لهم حدائق ونصب تذكاري لا يوجد له مثيل بالعالم.
رأيت دولة تشكلت مؤخرا، وأصبحت بها مؤسسات ديمقراطية توازى أعرق الديمقراطيات في العالم، بالرغم من حداثة عمر دولة إسرائيل الجديدة، رأيت بدون مبالغة شعلة مضيئة في منطقة حالكة الظلام، وأدركت بما لا يدع مجالا للشك أن سر بقاء إسرائيل رغم كل ما يحيط بها من مخاطر وجدال؛ هي الديمقراطية والحرية التي تسود المجتمع الإسرائيلي بمختلف شرائحه ومكوناته.
رامي عزيز هو صحفي مصري مقيم في أوروبا.
نشر هذا المقال لأول مرة على موقع منتدى فكرة