عندما نتحدث عن الهولوكوست التي ألحقها الألمان بالشعب اليهودي، نفكّر مباشرة بيهود أوروبا. ومع ذلك، فقد تأثرت الجاليات اليهودية في شمال إفريقيا بشكل مباشر بما حدث في أوروبا. كانت أكثر جالية يهودية قد تضرّرت في شمال إفريقيا هي الجالية اليهودية الليبية، بسبب التحالف بين ألمانيا وإيطاليا، التي كانت تسيطر على ليبيا في تلك الفترة. تم ترحيل اليهود من منازلهم، ونُقلوا إلى معسكرات الاعتقال، بل إنّ بعضهم أُرسل إلى معسكرات في أوروبا، حيث لاقوا حتفهم هناك. عند انتهاء الحرب وفي السنوات التي أعقبت ذلك، لم يبقَ يهود في ليبيا تقريبًا، وعلى مرّ السنين اختفت الجالية حتى لم يبقَ ولا حتى يهودي واحد يعيش اليوم في ليبيا. هذه هي قصة الجالية اليهودية في ليبيا في فترة الهولوكوست:
الاحتلال الإيطالي
عام 1931 كان عدد اليهود في ليبيا 21,000، نحو 4% من مجموع السكان. (الجالية الأصغر من بين جاليات شمال إفريقيا). كان عددها عشية الحرب العالمية الثانية نحو 30,000. أقام أكثر من نصف أبناء الجالية في طرابلس، نحو 10% في بنغازي، والبقية في عشرات البلدات الصغيرة.
في تلك الفترة بدأ الاحتلال الإيطالي بالاستقرار في ليبيا. لم يكن نفوذ السلطات الإيطالية محسوسا جدّا في البداية في أوساط يهود ليبيا، الذين حصلوا على مكانة قانونية، ومثّلوا مجموعة دينية – عرقية مهمّة وخصوصا بسبب دورهم المهم في الاقتصاد الليبي. كان لدى القيادة الإيطالية نهجان متناقضان تجاه اليهود: دعا النهج الأول إلى التقدم السياسي والاجتماعي لليهود، وخلافا له عمل تيّار خشي من أن يثير “التفضيل الزائد” لليهود غضب السكان العرب المسلمين.
بدأ اليهود يشعرون باليد الثقيلة للحكم الفاشيّ عام 1935، حيث أوجدوا حينذاك المرسوم الأول، وهو “مرسوم يوم السبت”، حيث أُجبر جميع التجار اليهود على افتتاح محلاتهم خلال يوم السبت، وهو يوم الراحة المقدّس لدى اليهود. ومع ذلك، وافق بينيتو موسوليني عام 1937 على الالتقاء بممثّلي الجالية، وتلقّى استقبالا فاخرا، ووعد الحاخام الرئيسي بأنّ النظام الفاشي سيحترم الجاليات اليهودية وتقاليدها، دينها وزعيمها. وفعلا، في نفس العام تم إلغاء جميع العقوبات التي فُرضت على التجار اليهود.
الألمان يدخلون إلى الصورة
ومع ذلك، لم يستغرق وقتًا طويلا حتى بدأ الوضع بالتدهور. عام 1936 عقدت إيطاليا الفاشية تحالفا مع ألمانيا النازية، وبحسبه فإنّ قوانين العنصرية نافذة أيضًا على إيطاليا ومستعمراتها. في تموز عام 1938 نُشر في إيطاليا “البيان العرقي”، والذي ظهرت فيه القوانين العنصرية والمعادية للسامية والتي مثّلت موقف الحزب الفاشي. طالب البيان بإقالة جميع اليهود الذين يشغلون مناصب حكومية، طرد المواطنين اليهود من الرعايا الأجانب، سحب رتب جميع اليهود في الجيش الإيطالي، وبالإضافة إلى ذلك لم يُسمح لليهود بالتعلّم في مؤسسات التعليم العالي أو المشاركة في المناقصات الحكومية.
لحسن حظّ يهود ليبيا، فقد طلب حاكم ليبيا الإيطالي تخفيف هذه الأحكام بحجّة أنّها ستطيح بالاقتصاد الليبي، وحصل على موافقة في تطبيق القوانين العنصرية كما يراه مناسبا في ليبيا. ورغم أنّ العديد من اليهود قد أُقيلوا وتأذت مكانتهم، ولكن حالهم كان أفضل من يهود إيطاليا. ولكن وفاة حاكم ليبيا عام 1940 في حادث، والذي يعتبره البعض اغتيالا متعمّدا من السلطات الإيطالية، إلى جانب انضمام إيطاليا إلى الحرب العالمية الثانية، إلى جانب الألمان، يعدّ نقطة التحوّل الحقيقية في أوضاع اليهود.
معسكرات الاعتقال وأعمال السخرة
بدءًا من النصف الثاني من العام 1940 عانت مدينة طرابلس من قصف فرنسا وبريطانيا، وتضرّر الحيّ اليهودي في المدينة بشدة. قُتل الكثير من اليهود ونجمت أضرار جسيمة لممتلكاتهم. بعضهم، فضلا عن عدد من السكان المسلمين، هربوا إلى داخل البلاد. وفي نفس الوقت جرى تشديد على قوانين العنصرية وإنفاذها. تم ترحيل اليهود من بنغازي وما حولها إلى معسكر اعتقال قريب من طرابلس. أرسلتْ معظم القوى العاملة من الجالية في طرابلس إلى معسكرات العمل بالسخرة. وقد عانت بقية أبناء الجالية من القوانين العنصرية التي آذت مكانتهم الاقتصادية والاجتماعية بشدّة.
أدّت هذه الظروف القاسية والقوانين العنصرية بالجالية اليهودية لدعم البريطانيين، وليس الإيطاليين. عام 1940 احتُلّت بنغازي من قبل البريطانيين، وتم تحرير اليهود الذين كانوا فيها من وطأة القوانين العنصرية، ووثّقوا علاقاتهم مع البريطانيين. ولكن عام 1941 عادت قوات إيطالية وألمانية لاحتلال المدينة، وانسحب معها 250 يهوديا أيضًا. حافظ المواطنون الإيطاليون الذين أقاموا في المدينة على كراهيّتهم لليهود بسبب ولائهم للبريطانيين، ونفّذوا فيهم أعمال شغب قُتل خلالها يهوديّان، وتم نهب الكثير من الممتلكات وتدميرها. اعتقلت السلطات الإيطالية الكثير من اليهود اشتباهًا بمساعدتهم للعدوّ وكانت الأجواء المعادية للسامية في ذروتها. قرّرت إيطاليا ترحيل جميع اليهود من المنطقة إلى إقليم طرابلس وفرضت عليهم عقوبات شديدة، من بينها إعدام ثلاثة يهود.
كان إيذاء يهود برقة، وهو الإقليم الذي تقع فيه بنغازي، هو الأسوأ من أي جالية أخرى في ليبيا. تم قتل أكثر من 500 يهودي من جالية بلغ تعدادها 4,000 نسمة. بقيت حياة أولئك الذين نجوا في خطر. أُرسل نحو 2,600 يهودي إلى معسكرات الاعتقال.
أُرسل معظم يهود برقة إلى معسكر الاعتقال جادو، جنوب طرابلس. أقيم المعسكر في قاعدة عسكرية قديمة، وتم تجميع اليهود فيه في ثكنات قديمة باكتظاظ فظيع. وبسب الظروف الصحيّة السيّئة، توفي الكثيرون من الأمراض ومن سوء التغذية. حتى كانون الثاني عام 1943، عندما حرّر البريطانيّون المعسكر، تم قتل 600 يهودي من بين 2600 ممّن تمّ تجميعهم في المعسكر.
في الوقت نفسه، تم طرد جميع اليهود من الرعايا الأجانب من ليبيا. تم ترحيل نحو 1600 يهودي من الرعايا الفرنسيين إلى تونس، وتم ترحيل أكثر من 400 يهودي من الرعايا البريطانيين إلى إيطاليا، حيث جُمّعوا هناك في المعسكرات. بعد أن احتل الألمان إيطاليا عام 1943، أرسلوا اليهود لأعمال السخرة. عام 1944 تم إرسال قسم من المنفيين من ليبيا إلى معسكرات الاعتقال في ألمانيا، حيث مات هناك الكثير منهم بسبب الظروف المزرية والبرد القارس، والذي لم يكن يهود إفريقيا معتادين عليه.
نهاية الجالية
لم تكن نهاية الحرب العالمية الثانية بالضرورة علامة مشجّعة بالنسبة ليهود ليبيا. في نهاية عام 1945 جرت مذابح ضدّ يهود ليبيا وقُتل منهم 142 شخصا، وأصيب الكثيرون غيرهم وتضرّرت ممتلكات جماعية كثيرة بما في ذلك الكنُس. في حزيران عام 1948، قريبا من غزو الجيوش العربية لإسرائيل، وقعت أحداث دامية مجدّدا وذُبح فيها 14 يهوديّا، ودُمّر 280 منزلا. وفي أعقاب أعمال الشغب بين عاميّ 1948 – 1953 هاجرت الجالية اليهودية كلّها تقريبا إلى دولة إسرائيل، وهاجر القليلون إلى إيطاليا. في نهاية تلك الفترة بقي في ليبيا نحو 4,000 يهودي فقط.
. بعد أن نالت ليبيا استقلالها عن الحكم البريطاني عام 1951، لم يحصل يهود ليبيا على حقوقهم المدنية أو بطاقة هوية ليبية، واستمرّوا بالمعاناة من اضطهاد السكان المسلمين. حتى عام 1967 هاجر معظم اليهود من ليبيا إلى دولة إسرائيل. في فترة حرب الأيام الستة، هاجم المسلمون من تبقّى من اليهود في ليبيا، وفي أعقاب ذلك غادر ليبيا الألفي يهودي الذين تبقّوا فيها، واشتملت الجالية التي بقيت على عدد قليل من اليهود. عام 2002 غادرت ليبيا اليهودية الأخيرة.