قامت ألمانيا النازية بضمّ أراضٍ حتّى قبل اندلاع الحرب. ففي إطار ما يمكن أن يُدعى “التجربة والخطأ” بالنسبة لردود دُول العالم والرأي العام العالمي على محاولات ألمانيا “تعويض” ظُلم “معاهدة فرساي” عبر التوسُّع والتسلُّح، ضُمَّ إقليم السوديت إلى الرايخ عقب مؤتمر ميونيخ. في 13 آذار 1938، ضمّ الألمانُ النمسا. وفور دخولهم النمسا، شرع النازيون يطبّقون سياسة مُعادية لليهود بشكل جليّ في كلّ مناطق البلد. ورغم أنّ معاهدة فرساي حظرت إعلان الوحدة بين ألمانيا والنمسا، غضّت القوى العظمى الطّرفَ عن هذه الخطوة، مفترضةً أنّ هتلر سيكتفي بضمّ النمسا وإقليم السوديت من تشيكوسلوفاكيا، ولن يحتلّ أراضي أخرى بالقوّة العسكرية. ولكن كم كانوا مُخطِئين!
في أوّل أيّام أيلول من عام 1939، اندلعت الحرب العالمية الثانية. هذه الحرب التي غيّرت وجه أوروبا والعالم بأسره، والتي راح ضحيّتَها عشراتُ ملايين البشر من جميع الأمم والشعوب، شهدت أيضًا تنفيذ الخطة الألمانية لإبادة الشعب اليهوديّ. مع اندلاع الحرب، تقدّمت السياسة الألمانية المعادية لليهود خُطوة. فبعد احتلال بولندا، جُمع اليهود في غيتوات شرقيّ أوروبا. وبدءًا من عام 1940، بدأ في أوروبا الغربيّة تسجيل اليهود وتجريدهم من ممتلكاتهم. سُنّت القوانين العنصرية اللاسامية في شماليّ إفريقيا أيضًا، وفرضت الأنظمة المتعاونة مع ألمانيا النازية جنوب شرقيّ أوروبا أعمال السُّخرة على اليهود، فيما لاقى عشرات ألوف اليهود حتفهم هناك.
في 17 أيلول 1939، وفي موازاة محاولة البولنديين صدّ الهجوم الألماني، اجتاح الاتّحاد السوفياتي شرقيّ بولندا وفق اتفاقية “مولوتوف – ريبنتروب”، الاتفاقية السرية التي وقّعها وزير الخارجية السوفياتي مولوتوف مع نظيره الألماني ريبنتروب. أُخضِعت بولندا خلال ثلاثة أسابيع، وشطرها الألمان ثلاثًا: ضمّوا قسمًا إلى الرايخ الألماني، ضمّ الاتحاد السوفياتي قسمًا آخر، فيما أضحى القسم الرئيسي من بولندا تحت إدارة “الحكومة العامّة” وخاضعًا للنفوذ الألماني. مع احتلال بولندا، أمسى نحو 1.8 مليون يهودي تحت رحمة الحُكم النازي. وكان اندلاع الحرب قد أطلق لجام الألمان. فالبولنديون، الذين اعتبرهم النازيون شعبًا سلافيًّا “حقيرًا” عليه “خدمة الأسياد”، عانَوا منذ احتلال بلادهم من الإرهاب، الاعتقالات، واغتيال النُّخَب.
عُرضت السياسة تجاه اليهود وطُرق حلّ “المسألة اليهودية” كجُزء من محاولة تفادي الضّرر الذي يُلحقه اليهود بالشعب الألماني وبالرايخ. لهذا السبب، فُوّضت الشرطة والوحدة الوقائيّة (SS) الاهتمام باليهود. مع اندلاع الحرب، شكّلت نظرة الألمان إلى اليهود مرحلة انتقالية بين تطبيق حلّ “المسألة اليهوديّة” وبين “الهدف النهائي”. ورغم أنّه لا يمكننا الافتراض أنّ “الحلّ النهائي” الذي يهدف إلى القتل الجماعي كان مُحدّدًا وأنّ خطة الإبادة كانت قد تبلوَرت، يبدو أنّ خططًا ضبابيّة ورغبة عامّة غير واضحة المعالم لحلّ سريع ونهائيّ لـ”مشكلة اليهود” كانت موجودة. في هذه المرحلة، تواصَلت سياسة فرض الهجرة إلى خارج حُدود الرايخ الألماني. في أيلول 1939، أرسل راينهارد هيدريش، رئيس مكتب أمن الرايخ الرئيسي في الإس إس، برقية حدّدت الأنظمة والتعامل مع اليهود في المناطق المُحتلّة في بولندا. نصّت هذه الإرشادات على نقل اليهود الذين كانوا يقطنون في بلدات وقرى إلى مناطق أكثر كثافة في “غيتوات”، وتشكيل “مجالس يهودية”، يكون دورها تنفيذ أوامر السلطات الألمانيّة. تُعتبَر هذه المجالس أمرًا مُثيرًا للجدل في تاريخ الهولوكوست. فهناك مَن يراها هيئات أضعفت اليهود، فيما يدّعي آخرون أنّ هذه المجالس، قياسًا للظروف المستحيلة، ساهمت في صُمود اليهود قدر ما وَسِعَها ذلك.
مع اجتياح الألمان مُدُن بولندا، شرعوا بتعذيب كلّ يهوديّ يُصادفونه. فقد أهان الألمان، ضربوا، وقصوا لحى شيوخ اليهود الملتزمين دينيًّا، وعلّقوا مشانق علنية ليُلقوا الذعر بين السكّان. أشرف على التنفيذ رجال الوحدات الخاصة للوحدة الوقائية، الذين رافقوا وحدات الجيش. وترافق دخولهم مع إحراق مجامع اليهود ودورهم بمَن فيها، فيما خُطِف عابرو سبيل في الشوارع وأُكرهوا على إصلاح أضرار المعارك. بعد فرض غرامات باهظة على زعماء اليهود بسبب “مسؤوليتهم” عن اندلاع الحرب العالمية والدمار المتأتي عنها، فُرضت عليهم مجموعة من الأحكام: واجب تسجيل القوى العاملة اليهودية وفرض “العمل القسري”، سلب ممتلكاتهم، وتجريدهم من وسائل تحصيل معيشتهم. نشر الألمان في المناطق التي احتلّوها أوامر ألزمت اليهود بوضع سِمة مميّزة – شرائط على الذراع عليها نجمة داود – كما كان معهودًا وسمهم في العُصور الوُسطى. أمّا في مناطق الرايخ الألماني، ولاحقًا في الأراضي التي احتلّها الألمان في أوروبا الغربيّة، فقد أُلزِم اليهود بوضع نجمة داود صفراء على أرديتهم.
استمرار الاحتلال
خلال أقلّ من عامَين، منذ غزو بولندا في 1 أيلول 1939 وحتّى بدء المعركة مع الاتّحاد السوفياتي في حزيران 1941، نجح الألمان في بسط سيطرتهم على معظم أوروبا – فقد التهموا النرويج، الدنمارك، بلجيكا، فرنسا، هولندا، يوغوسلافيا، واليونان بعد مجرّد معارك عسكريّة قصيرة.
ومع اكتمال السيطرة العسكرية والانتصارات في الغرب، ازداد مقدار السيطرة الألمانية على يهود أوروبا. أمّا مناطق جنوب غرب أوروبا – سلوفاكيا، هنغاريا، رومانيا، وبلغاريا – فقد كانت في علاقة تحالُف مع ألمانيا النازية، وقبلت طوعًا الإملاءات الألمانية، ما جعلها تحت الوصاية النازية. في هذه الرقعة الشاسعة من القارة الأوروبية، التي اعتُبرت أساسًا لبسط “النظام الجديد”، تحكّم النازيون في رقاب اليهود.
أصدرت الأيديولوجية النازية الحُكم نفسَه على يهود أوروبا كافّةً، لكنّ طرق تطبيق السياسة اللاساميّة اختلفت في البُلدان المحتلة، لا سيّما بين شرق القارّة وغربها. ففي حين أُنشئت غيتوات شرق أوروبا ومورس إرهاب شديد، جسدي واجتماعي واقتصادي، على اليهود، كان الإرهاب المُمارَس بحق اليهود في الغرب تدريجيًّا أكثر. نجمت هذه الفروق بشكل أساسي من افتراض الألمان أنّ اللاسامية ليست منتشرة ونافذة في غرب أوروبا كما هي في شرقها، وذلك لأنّ اليهود الذين عاشوا غرب أوروبا اعتبرهم الكثيرون جُزءًا لا يتجزأ من النسيج المحليّ ومن الأمّة، كما أنّ حكومات أوروبا الغربية حافظت على مقدار من الاستقلال، ما جعل النازيين “يهتمّون” باليهود هناك بطُرق ووتيرة مختلفة. ففي أوروبا الغربية، طبّق النازيون السياسة المُعادية لليهود برويّة أكثر، إذ سنّوا قوانين عنصريّة ضدّ اليهود، مارسوا التمييز ضدّهم، وفرضوا بيع أملاك اليهود قسرًا لجعلها آريّة؛ لم تُنشَأ الغيتوات في هذه البُلدان. ولكن رغم هذه الفروق، لم يختلف مصير يهود غربيّ أوروبا عن مصير يهود شرقيّها، في نهاية المطاف.