اختار وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، تخصيص جزء رئيسي من خطابه لعلاقته الخاصة بإسرائيل منذ زيارته الأولى لها كعضو مجلس شيوخ شاب، قبل 30 عاما. لقد تحدث كيف تسلّق إلى موقع متسادا، سبح في البحر الميت، انتقل من مدينة توراتية إلى أخرى، ورأى فظائع الهولوكوست في “ياد فاشيم”، بل طيّر طائرة تابعة لسلاح الجو فوق إسرائيل ليفهم احتياجاتها الأمنية.
ليس هناك الكثير من السياسيين الأمريكيين الذين يعرفون إسرائيل مثل جون كيري. لم يتعمق أي سياسي أمريكي في منصبه في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، ولم يستثمر جهودا لحلّه أكثر منه. كانت الأمور واضحة جدا في خطابه. أحسن وزير الخارجية الأمريكي في تحليل الأوضاع التي تمر فيها عملية السلام في هذه الأيام. وهي عدم الثقة العميق بين الجانبين. اليأس، الغضب والإحباط في الجانب الفلسطيني إلى جانب الخوف، الانغلاق واللامبالاة في الجانب الإسرائيلي.
كان خطاب كيري خطابا صهيونيا ومؤيّدا لإسرائيل بشكل ممتاز. على كل من يؤيد حقّا حلّ الدولتين والاعتراف بإسرائيل دولة يهودية وديمقراطية أن يرحّب بكلامه ويؤيّده. هذا حدث ثنائي. ليس هناك ما هو في الوسط. ليس صدفة، كان هناك من سارع وهاجم كيري حتى قبل أن يبدأ خطابه وبقوة وهم رئيس حزب البيت اليهودي، نفتالي بينيت، وزعماء لوبي المستوطنين. أشار كيري بنفسه في خطابه إلى أنّ هذه هي الأقلية التي تقود اليوم الحكومة الإسرائيلية والغالبية اللامبالية في طريق حلّ الدولة الواحدة.
ربما تصرّف وزير الخارجية الأمريكي أكثر من مرة بشكل أحمق، وسواسي، وحتى بالقليل من المسيحانية في السنوات الأربع الأخيرة، ولكنه فعل ذلك بنية طيبة وعادلة. لقد حاول بكل قواه إنهاء الصراع الذي يدور منذ 100 عام لضمان مستقبل إسرائيل، الحليف الأكبر لأمريكا، وإنهاء معاناة الفلسطينيين. لسوء حظّه، لم يرغب شريكاه في هذه المهمة – رئيس المهمة بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس – ببساطة بذلك مثله. في السنوات الأربع الأخيرة كان عباس ونتنياهو صورة طبق الأصل من بعضهما. لقد ركّزا على الحفاظ على الوضع الراهن، تحصّنا بمواقفهما ولم يكونا مستعدين للمخاطرة بحد أدنى أو التحرّك قليلا من أجل المحاولة وتحقيق انفراجة.
كان خطاب كيري طويلة ومفصّلا، رغم أنّ أساسه كان مخطط السلام الذي عرضه. لم يهدف المخطط إلى أن يكون حلّا قهريا، ولكن إلى عرض المبادئ الأساسية التي على ضوئها ستجري كل المفاوضات المستقبلية بين إسرائيل والفلسطينيين. استند المخطط إلى وثيقة الإطار التي أنهى كيري صياغتها في آذار 2014، بعد عدة أشهر من المحادثات بين الجانبين.
عندما نقرأ كلام كيري ندرك فورا أنّه وافق على جزء كبير من المطالبات الإسرائيلية، وعلى رأسها المطالبة بأن يتضمّن كل اتفاق سلام مستقبلي اعترافا فلسطينيا بإسرائيل كدولة يهودية. قرر كيري أيضا أنّ حلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين يجب أن يكون عادلا وواقعيا، بحيث لا يؤثر في طابع دولة إسرائيل. وأوضح أنّ كل رسم للحدود المستقبلية سيستند إلى إبقاء البؤر الاستيطانية الكبرى في أيدي إسرائيل، وأنّ يشكّل الاتفاق الدائم نهاية للصراع والمطالبات الفلسطينية من إسرائيل مؤكدا على الترتيبات الأمنية باعتبارها مكوّنا رئيسيا في كل اتفاق.
في المقابل، تضمن مخطط كيري سلسلة من التنازلات التي سيُطلب من إسرائيل القيام بها، وعلى رأسها الاعتراف بأنّ تكون القدس عاصمة كلا الدولتين. أوضح كيري أيضا أنّ رسم حدود الدولة الفلسطينية يجب أن يكون على أساس حدود 1967 مع تبادل متفق عليه بين الأراضي وأن تكون مساحتها شبيهة، وأنّه يجب الاعتراف بمعاناة اللاجئين الفلسطينيين.
تكمن المشكلة الأساسية في المخطط الذي عرضه كيري في أنّه عرضه متأخر جدا. يعلم وزير الخارجية الأمريكي أنه أخطأ عندما لم يضع وثيقة الإطار منذ العام 2014، مع المبادئ ذاتها تماما. يعترف كبار مستشاريه أنّه إذا كان بالإمكان إعادة عجلة الزمن إلى الوراء بـ 33 شهرا، كان سيعرض مخططه للسلام على الإسرائيليين والفلسطينيين وسيدعوهم إلى التفاوض على أساسه. كانت ستُلزم عملية تعرض إمكانيتي “القبول أو الرفض” الجانبين باتخاذ قرارات استراتيجية وسترسي مخطط كيري قبيل كل مفاوضات مستقبلية. إن عرضه أمس، قبل دخول دونالد ترامب بثلاثة أسابيع إلى البيت الأبيض، سيبقى رمزيا فقط.
كما فعل في عدد غير قليل من الحالات في الماضي، لم يتردد رئيس الحكومة، نتنياهو أبدا في الاستماع إلى أقوال كيري أو الإشارة إلى صلب الموضوع. فعلّق مهاجما ومنتقدا كيري بشكل شخصي وحادّ. هناك من سيقول إنّ عمق أقواله كعمق التحقيق. كان انتقاد نتنياهو متخللا بنسبة غير قليلة من النفاق والسخرية: المبادئ التي عرضها كيري في خطابه هي المبادئ ذاتها التي وافق عليها نتنياهو في آذار 2014. كانت لدى رئيس الحكومة حينذاك تحفّظات، تعمّد إسماعها علنيا، ولكنه في الواقع وافق على التفاوض على أساس المخطط ذاته بالضبط، بل حتى اليوم فهو يرفض الاعتراف بذلك.
علّق التوأم السياسي لنتنياهو، عباس، بما لا يقلّ نفاقا. عندما عرض عليه أوباما المخطط عام 2014، أكد عباس أنّه سيفكّر في ذلك ويعرب عن رأيه. ولكن ما زال أوباما ينتظر ذلك. حتى بعد خطاب كيري رفض عباس القول إذا ما كان يقبل المخطط أم لا.
الرئيس القادم للولايات المتحدة، دونالد ترامب، الذي تماشى مع قرار مجلس الأمن في موضوع المستوطنات واكتفى حينذاك بتغريدة صغيرة فقط، لم ينجح في كبح جماح نفسه إزاء خطاب كيري. قبل وقت قليل من أن يبدأ وزير الخارجية الأمريكي بالحديث، غرد ثلاث تغريدات موضحا فيها عن مدى عدم رضاه. كرر ترامب التصريح في الأشهر الأخيرة حول أنّ أحد أهدافه هو تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد أوضح بأنه يرغب في إغلاق “كل الصفقات الهامة” وإنهاء “الحرب التي لا تنتهي” بين الجانبين، بل وعيّن محاميه والمقرب منه جايسون غرينبالت مبعوثا خاصا لعملية السلام. سيكشف ترامب وغرينبالت قريبا إذا كانا يرغبان في تحقيق تلك الصفقة التاريخية، ولكن كما يبدو أنها ستكون مشابهة بشكل مذهل لتلك التي رسمها كيري في خطابه.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في صحيفة “هآرتس“