تخيّلوا الحالة التالية: يوم السبت صباحًا، مجموعة من الأطباء اليهود والعرب، المترجمين والمتطوّعين يتجمّعون في مفرق رئيسي في مدينة الطيبة، على حدود الخطّ الأخضر.
يحظى أفراد المجموعة بإرشاد قصير يرافقه استعداد سريع، ومن ثم يحملون جميع المعدات الطبية ويصعدون لسفر مشترك في الطريق إلى قرية فلسطينية أخرى صغيرة في الضفة الغربية. يُقدّم رئيس المجموعة، الدكتور صالح حاج يحيى، إرشاداً قصيراً للمتطوّعين، “قرية أرتاح” هي قرية صغيرة يبلغ تعدادها نحو 4500 مواطن فقط وتقع قرب مدينة طولكرم، وعلى بعد نحو ربع ساعة سفر من الطيبة، على الجانب الآخر من الخطّ الأخضر. في الفترة الأخيرة اكتُشف في القرية نحو 150 مريضاً يعانون من أنواع سرطان مختلفة. في الغالب يعاني أهل القرية من سرطان الرئة أو سرطان الجلد. هناك أكثر من 3% من السكان الذين يعانون من هذه الأمراض الخبيثة. وهي منتشرة في قرية أرتاح بسبب المصنع الكيميائي الذي يلوث مياه المجاري وهواء القرية منذ فترة طويلة. نحن في منظمة أطباء لحقوق الإنسان نحاول مساعدة السكان بأية طريقة من أجل التغلب على هذا “العملاق الكيميائي” الذي يفسد لهم حياتهم”، كما يلخّص الدكتور حاج يحيى.
يقودنا سفر مدته نحو ربع ساعة بين التلال الخضراء عند مدخل المنطقة A في الضفة الغربية، إلى ضواحي مدينة طولكرم. ينعطف سائق الحافلة الصغيرة إلى اليسار في طريق وعرة ويصل إلى مدخل مدرسة صغيرة في القرية. عند مدخل المدرسة، استقبلتنا لافتة ضخمة سُجّل عليها “المدرسة الابتدائية قرية أرتاح، وزارة التربية والتعليم، السلطة الفلسطينية بمساهمة الأمم المتحدة”.
ومن ثم تقف الحافلة على طريق ترابي. عند مدخل المدرسة، كانت تقف مجموعة من وجهاء القرية ومتطوّعين فلسطينيين محليّين يحملون باقات الورود. نزل الدكتور حاج يحيى أولاً، ثم توجه إلى رئيس القرية، أبو إياد، فعانقه وقبّله واستقبله. بعد ذلك بثوان ثارت ضجة كبيرة في القرية حول “الإسرائيليين المحبوبين”، كما وصفتهم لي أم عيسى (اسم مستعار)، التي جاءت مع ابنها الرضيع من أجل استشارة خبير الأطفال من وفد “الأطباء اليهود”.
توجّه الشبان الفلسطينيون فوراً لمساعدة الأطباء، وأخلوا لهم الغرف الدراسية، وغطوا نوافذ الصفوف بأوراق البريستول الكبيرة من أجل إعطاء العيادات المؤقتة شعور العيادة الحميمية، ووضعوا الفرشات على طاولات التلاميذ وجهزوا طاولات المعلّمين بالأقلام والأوراق.
“نحن نهنئ الأطباء من أجل حقوق الإنسان الذين يأتون إلى قريتنا لمساعدتنا في مواجهة “مصنع جيشوري” المجاور”، كما يقول أبو إياد، أحد زعماء القرية بالعبرية بطلاقة. في محادثة حميمية تحدث لي عن الصعوبات اليومية التي يواجهونها في القرية. “كما هو معروف لك أنا موظف لدى السلطة الفلسطينية في مكتب تنسيق العلاقات الإدارية مع الجانب الإسرائيلي. لم يكن هناك يوم واحد لم نصرخ فيه صرخة ألم السكان من مصادرة الأراضي، ومن تلوّث الهواء من مصنع جيشوري القريب من جدار الفصل، ومن المياه الجوفية التي تضررت، ومن جدار الفصل الذي سلب جزءًا من الأراضي الفلسطينية. لا حياة لمن تنادي. بفضل هؤلاء الأطبّاء الإسرائيليين الذين يساعدوننا في الحصول على تصاريح العلاج الطبي في المستشفيات في إسرائيل، نبقى على قيد الحياة. تساعدنا زياراتهم القليلة كل عام كثيراً. فهم يحضرون معهم الكثير من المعرفة والأدوية، ويحاولون تقديم الدعم قدر الإمكان وحيثما تكون الحاجة”.
يتجول الدكتور حاج يحيى بين الصفوف ويتأكد أن جميع الأطباء في مواقعهم. ينضم إلى كل طبيب إسرائيلي خبير طالب طب شاب أيضًا، وغالبا ينضم أيضا شخص عربي أو مترجم مهني، واللذان تشكل وظيفتهما حلقة وصل بسبب صعوبة اللغة.
جاءت أم ماهر إلى العيادة التي أقامها الأطباء في المدرسة وهي تعاني من تعب شديد بسبب مشاكل عانت منها في الكبد مؤخراً. بدأت تشرح المترجمة الشابة المرافقة للطبيبة لأم ماهر ماذا عليها أن تفعل، وأية أدوية عليها أن تتناولها في الوقت الذي كانت تفحص فيه الطبيبة الإسرائيلية صور الأشعة السينية التي قدّمتها لها أم ماهر. وهي صور أشعة سينية تمت تصويرها في مستشفى رئيسي في عمان، الأردن.
كنت أحاول أن أفهم من الدكتور صالح ما هي فاعلية هذه الزيارات لمرة واحدة، وأوضح لي أنّها فعلا تشكل “نقطة في بحر”. “تكمن أهمية هذه الزيارات في التخفيف. أخذنا على عاتقنا في الجمعية مهمة التخفيف قدر الإمكان. كافحنا من خلال الجمعية مع سكان أرتاح أيضًا ضدّ إجراءات قانونية في المحكمة العُليا. انضممنا إلى سكان البلدات اليهودية في المنطقة مثل “شاعر أفرايم” و”نيتسني عوز” لإبداء المعارضة ضدّ المصنع الكيميائي “جيشوري” وخسرنا. أي دعم، لا يهم ما هو حجمه، له أهميته”، قال مضيفاً.
وكيل الموت؟
بين طولكرم ومستوطنة نيتسني عوز الإسرائيلية، في المنطقة C (سيطرة أمنية وإدارية إسرائيلية) من الجانب الشرقي لجدار الفصل، تقع المنطقة الصناعية “نيتسني شالوم”. لقد أقيمت في الثمانينيات، دون خطط للبناء، وتمت المصادقة عليها بعد عقد من ذلك، حيث أشير في المخطط الرئيسي قبل المصادقة النهائية بأنه يجب إجراء مسح التأثير على البيئة وربط المكان بمنظومة مياه الصرف الصحي الرئيسية. وبحسب تقرير لمنظمة أصدقاء الكرة الأرضية، تم نشره في آذار عام 2014، تلوّث مياه الصرف الصحي القادمة من المصنع المياه الجوفية في المنطقة.
حتى اليوم لم يتم القيام بشيء في هذا الموضوع: تعمل المصانع وتتسرب مياه الصرف الصحي إلى طبقة المياه الجوفية، والتي عُرّفت بحسب سلطة المياه بأنها “حساسة بشكل خاصّ” لتلويث المياه الجوفية. هناك في المنطقة آبار عديدة لمياه الشرب، والتي عُثر فيها في العقود الثلاثة الأخيرة على ارتفاع في كمية الملوّثات.
وأوضح معدّ التقرير أن “إسرائيل ليست قادرة على تطبيق القوانين البيئية على المستوطنات والمناطق الصناعية الإسرائيلية خارج الخط الأخضر”، وأضاف أنّ “التشريعات البيئة التي تتم في الكنيست لا تعترف بالبلدات الإسرائيلية الواقعة خارج الخط الأخضر”.
أخبرتني كفاح أبو ربيع وهي أم لطفل مريض في الثامنة من عمره، كيف مرض ابنها بعد أن سقط في قناة مجارٍ تابعة للمصنع: “عندما كان في الثانية والنصف من عمره لعب ابني في الحقل قرب بيتنا. لقد سقط في قناة مجارٍ تابعة للمصنع وكانت تمر قرب المكان، ومنذ ذلك الحين ضعُف جهازه المناعي جدّا، تساقط شعره وتضررت رئتاه وهو يعاني من أمراض متعددة في الجهاز التنفسي.
متطوّعون حيثما يجب
من الجدير ذكره أنه ليس جميع المرضى الذين التقيت بهم قد تضرّروا نتيجة لعمل المصنع، كان هناك من جاء لأخذ الأدوية باهظة الثمن والتي توزّعها الجمعية مجانا. وزّع الدكتور حاج يحيى الأدوية في غرفة منفصلة عُلّقت على بابها لافتة بدائية كتب عليها “صيدلية”.
تحدث الدكتور أهرون، طبيب عظام، وزوجته عيريت وهما متطوّعان في الجمعية منذ أكثر من ست سنوات، عن التجربة قائلين: “لا حاجة للكثير من الكلام، نحن جئنا لنعمل عملا صالحا، بعيدا عن السياسة والسياسيين. أرى أن هناك من يعاني من آلام في المفاصل أو آلام في الظهر. فمباشرة أفكر كيف يمكنني أن أخفف آلامه. نتطوّع مرة كل شهر وليته توفر لي الخيار بمتابعة هؤلاء المرضى الفلسطينيين هنا. أقدّم لهم تخفيفا صغيرا قدر الإمكان”. كانت تطلب عيريت زوجة الدكتور أهرون المسارعة في إنهاء المقابلة من أجل البدء في التشخيص الأولي لرجل في منتصف الخمسينيات من عمره ويعاني لفترة طويلة من آلام في الظهر والأطراف.
توجهت إلى غرفة أخرى بعد أن بدت لي “مشبوهة” أكثر من غيرها. كُتب على اللافتة البدائية “الوخز بالإبر الصينية” وتساءلت كيف يمكن للوخز بالإبر الصينية أن يساعد المواطن في القرية. كانت تنتظرني الإجابة في الداخل. في حلقة دائرية كان يجلس ويرتاح على المقاعد رجال وشباب في حين كانت الإبر تزيّن وجوههم، آذانهم وأيديهم. وكانت تشرح لهم مرشدة الوخز بالإبر عن أهمية التنفس والاسترخاء الذي يمنحه الوخز.
في زاوية أخرى كان يجلس بعض الأشخاص وينتظرون بصبر طبيبا شابا آخر متخصّصا بالرضّع، وفي كل ركن يتجوّل نشطاء ومتطوّعون فلسطينيون وإسرائيليون وتشغلهم قضية واحدة فقط وهي تقديم المساعدة الطبية لكل من يطلبها. لقد تخيّلت “خلية نحل” نشطة بشكل خاصّ، إسرائيلية وفلسطينية وضعت جانبا الجوانب السياسية والدبلوماسية للصراع ووفّرت دعما نفسيا وطبّيا للناس الذين يحتاجونه.