بدأ “عقد النفط” عام 1973 مع ارتفاع كبير بأسعار النفط في العالم، واستمر حتى بداية الثمانينيات. ارتفعت أسعار النفط مجددا خلال العقد الماضي بشكل ملحوظ، ولكن منذ الصيف الماضي انخفضت باطّراد. وصلت أسعار النفط هذه الأيام إلى مستوى منخفض نسبيًّا، أعلى بقليل من تلك التي كانت في نهاية عام 2008، في أعقاب الأزمة العالمية في ذلك العام. هذه التقلّبات في أسعار النفط معروفة مسبقا ويمكن التنبّؤ بها في الوقت نفسه، وقد وقعت حتى الآن على فترات تمتدّ من خمسة إلى خمسة عشر عاما. الحديث عن سوق يكون فيه العرض والطلب “ثابتين” نسبيًّا، أي إنّه من الصعب على المستهلكين والمنتجين الاعتياد على التغيير بشكل فوري، وتخفيض استخدام النفط أو زيادة إنتاجه بين عشية وضحاها.
ساهم الارتفاع والانخفاض في أسعار النفط بتغييرات اقتصادية – سياسية في الشرق الأوسط. وصل “عقد النفط” إلى حافّة ما سمّاه مالكوم كير “الحرب الباردة العربية”، أي الخصومة بين الدول العربية “الثورية” والدول العربية “المحافظة”. في ذلك الوقت وُضعتْ جانبًا أيضًا فكرة الوحدة العربية (القومية العربية)، أي إنشاء إطار مشترك للدول في المنطقة، لأسباب ليس أقلّها معارضة دول النفط لإطار اقتصادي – سياسي مشترك كان معناه إعادة توزيع أرباح النفط من جديد. اضطرّت مصر على عهد عبد الناصر، والتي قادت فكرة الوحدة العربية والمعسكر الثوري في الستينيات، أكثر فأكثر إلى الدعم المالي من دول النفط المحافظة وبذلك فقد خفّضت أيضًا نبرتها بخصوص التعامل مع التغيير الذي سيجتاح العالم العربي.
ومع انتهاء “عقد النفط” في أواسط الثمانينيات اضطرّت دول كثيرة في المنطقة، بما في ذلك مصدّرات النفط الكبرى كالسعودية، إلى البحث عن بديل اقتصادي. كان النجاح محدودا، وبقي الاعتماد على النفط عاملا رئيسيا وثابتا في اقتصاد المنطقة. مصر أيضًا، التي تتمتّع بموارد نفطية قليلة نسبيًّا، أصبحت معتمدة على النفط. وذلك لأنّ الإيرادات المباشرة وغير المباشرة من هذا المورد – كالعمال المصريين في دول النفط، مدفوعات العبور من قناة السويس، السياح والمستثمرين من الخليج ونقل الأموال من دول الخليج إلى الدولة المصرية – أصبحت جزءًا رئيسيّا من عائداتها بالعملات الأجنبية.
بدءًا من نهاية الثمانينيات مرّت جميع دول المنطقة بإصلاحات اقتصادية نيو – ليبرالية من التقليل في خدمات الدولة، محاولات إدارة أكثر كفاءة للقطاع العام وبشكل خاص الخصخصة، وزيادة عدم المساواة في توزيع الدخل الذي يصاحب هذا الإصلاح. كان هدف تلك الإصلاحات بشكل أولي هو إحداث التوازن في الاقتصاديات المحلية بعد سنوات زيادة الميزانية في أعقاب الإيرادات المباشرة وغير المباشرة من النفط. وقد رافقت هذه العملية بشكل واضح اضطرابات اجتماعية وعمليات تطرّف سياسي، خصوصا من قبل الحركات ذات الطابع الديني المتطرّف، والتي جذبت الاهتمام الكبير من قبل دول المنطقة والرأي العام العالمي.
أحدث ارتفاع أسعار النفط في بداية الألفية الثانية ابتهاجا بالنسبة لإمكانية تصدير نموذج النجاح الاقتصادي لدبي إلى جاراتها في الخليج بل ولدول أخرى في الشرق الأوسط، وهو نموذج الاستثمار المالي الضخم لتنمية التجارة الدولية، السياحة الدولية والمناطق الصناعية الحرّة. ولكن بقيت المشاكل الأساسية قائمة بقوة: ضعف البنية التحتية لدولة الرفاه، غياب التغيير الاقتصادي العميق (وخصوصا التصنيع)، العلاقات الوثيقة جدا بين السلطة والحكم، وبالطبع بقاء الأنظمة الاستبدادية. وعلى العكس من ذلك كان “الربيع العربي” ردّة فعل على الفجوة الكبيرة بين الثروة وتوزيعها، كما أنه كان ردّة فعل على درجة عالية من الاستمرارية الاقتصادية – السياسية رغم “عقد النفط” الثاني الذي ضرب الشرق الأوسط.
لن يُحدِث الانخفاض الحالي في أسعار النفط تغييرات كبيرة في الشرق الأوسط على المدى القريب. راكَمتْ دول النفط الكثير من الأموال بعد سنوات من أسعار الطاقة المرتفعة، وهي قادرة على استيعاب الآثار المباشرة لانخفاض الأسعار. بل وقد يكون جزء من الانخفاض الحالي في أسعار النفط نتيجة للسياسة السعودية الموجّهة لضرب المنافسين، وخصوصا لمصدّري النفط من الصخور الزيتية، والتي قاد دخولها إلى سوق الولايات المتحدة إلى الاستقلالية في الطاقة، حتى ولو بأسعار مرتفعة. بالإضافة إلى ذلك، إذا استمرّت أسعار النفط بالانخفاض في السنوات القادمة، فسوف تتقلّص الأموال المتوفّرة لدى الدول المصدّرة، وخصوصا على ضوء حاجيّاتها الكبيرة في تأمين خدمات دولة الرفاه وفرص العمل لمواطنيها. وهذا الأمر صحيح بشكل خاصّ بالنسبة للسعودية، التي وزعت الكثير من الأموال من أجل إحداث هدوء محلي وإقليمي في أعقاب الربيع العربيّ، وستجد صعوبة أكبر في اتخاذ “سياسة المحفظة” كما في الماضي.
وقد يكون الانخفاض في أسعار النفط ذا أهمية أكبر في دول كمصر. حيث تعتمد مصر كما في الماضي على الأرباح المباشرة وغير المباشرة من النفط. فعلى سبيل المثال، قدّمت لها دول الخليج في العام الأخير للميزانية مبلغا بقيمة 10.6 مليارات دولار، معظمه من المنتجات النفطية، والهدف هو تحقيق الاستقرار في حكم السيسي. ويشارك مستثمرون سعوديون في هذه الأيام بمشروع ضخم لتوسيع قناة السويس. قد يضرّ تخفيض أسعار النفط في المستقبل بالمساعدة الخليجية لمصر، وكذلك بالإيرادات الأخرى التي مصدرها النفط والغاز، وقد يؤثر على الاستقرار السياسي للبلاد. رغم أنّها ليست أحداثا سياسية مباشرة، يجب الانتباه للتغييرات في أسعار الطاقة. إنها تقع في أساس العمليات السياسية التي تبدو في المستقبل.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع Can Think