قبل عدة سنوات، قال لي أحد الأشخاص، وهو مستشار لأبي مازن بأنّه يمكن أن نسميه “المثقف الفلسطيني”، لأنّه من حيث ترتيب الأولويات لدى الفلسطينيين فالدولة المستقلّة ليست في أعلى سلّم الأفضليات. ماذا إذن؟ حقّ العودة، بمفهومه العملي: العودة إلى أراضي فلسطين (أرض إسرائيل). ربما ليس تماما إلى المكان الذي كان فيه البيت القديم قائما، ولكن في مكان ما في المحيط. بعد العودة، ولأنّها غير ممكنة، جاء النضال ضدّ إسرائيل. ولذلك حظيت عمليات حماس بدعم واسع: “المقاومة” أكثر أهمية من إقامة دولة مستقلة.
لم يكن هناك أبدا تجسيد ملموس إلى هذه الدرجة لسلّم الأولويات هذا، منذ التطورات الأخيرة بخصوص إنقاذ نحو 18 ألف فلسطيني من مخيم اليرموك في ضواحي دمشق. يمكن أن ندعو ذلك: العودة أو الموت. اتّضح أنّه قبل نحو شهر ونصف وافقت إسرائيل على السماح لعدد كبير من الفلسطينيين، من ضحايا الجوع والدمار من الحرب الأهلية السورية، بإيجاد ملجأ في أراضي السلطة الفلسطينية، في الضفة الغربية أو في غزة؛ وكلّ ذلك بوساطة الأمم المتحدة. واجه هذا الاقتراح مقاومة مفاجئة، لأنّها كانت مقترنة بتنازل أولئك اللاجئين عن عودتهم إلى بلداتهم الأصلية قبل عام 1948. قرّر أبو مازن التنازل باسمهم عن التخلّي عن حقّ العودة، وحكم عليهم بذلك بالمعاناة الفظيعة في مخيم اليرموك في دمشق، والذي قامت فيه معارك بين تنظيمات الثوار، بما في ذلك داعش، وبين قوات نظام بشار الأسد.
قبل نحو شهر ونصف وافقت إسرائيل على السماح لعدد كبير من الفلسطينيين، من ضحايا الجوع والدمار من الحرب الأهلية السورية، بإيجاد ملجأ في أراضي السلطة الفلسطينية، في الضفة الغربية أو في غزة؛ وكلّ ذلك بوساطة الأمم المتحدة. واجه هذا الاقتراح مقاومة مفاجئة، لأنّها كانت مقترنة بتنازل أولئك اللاجئين عن عودتهم إلى بلداتهم الأصلية قبل عام 1948. قرّر أبو مازن التنازل باسمهم عن التخلّي عن حقّ العودة، وحكم عليهم بذلك بالمعاناة الفظيعة في مخيم اليرموك في دمشق
حظي كلّ ذلك بتغطية عشوائية، سطحية وغير مفصّلة في الإعلام الإسرائيلي، وتلاشى. والسبب في أنّ الموضوع لم يحظَ بأي عنوان هو أنّ الكارثة في اليرموك تتناقض مع الرواية الفلسطينية. ولكنها أكثر من ذلك تتناقض مع رواية هجمة الكراهية المعادية للصهيونية والتي تشترك فيها الحركات اليسارية في العالم وفي إسرائيل.
الفلسطينيون الذين يموتون ويتعرّضون للتعذيب غير محسوبين، طالما أنّ من يرتكب الأهوال لا يرتدي زيّ الجيش الإسرائيلي. هذا ما كُتب صراحة في صحيفة “الغارديان” البريطانية وفي “الجزيرة”. بل وصف ناشط فلسطيني في حقوق الإنسان الصمت بخصوص الأهوال في اليرموك في الإعلام بأنّه “صمت مخيف”. ويشارك أبو مازن الذي يهاجم إسرائيل على جميع الجبهات في هذا الصمت. فذلك سيسلبه تصدر العناوين من الفيفا؛ وسيسلبه ذلك خطابات أوباما، الذي أعلن في الواقع ليلة عيد إنزال التوراة بأنّ إقامة دولة فلسطينية هو من أسس الديانة اليهودية. ربما في الوصية 11 أو 12، من يعُدّ.
كان سيتناقض ملجأ لآلاف الفلسطينيين الذين يموتون في الضفة الغربية أيضًا مع أسطورة “الاحتلال العنصري العنيف”. فمن الذي يرغب بأنّ يتم استيعابه في هذه الأرض المهدّدة، الواقعة تحت سيطرة “الأبرتهايد الإسرائيلي النازي”؟ لجميع هذه الأسباب، رأينا نموذجا ملموسا كيف تعتبر القيادة الفلسطينية الوطنية، إن كان هناك وجود لشيء كهذا، عرب 48 الموجودون خارج حدود البلاد أعلافا دعائية للمدافع، حرفيّا. شيء من هذا القبيل: “ابقوا في اليرموك الذي يتعرض للقصف والمُجوّع واصمتوا”. يمكن بالفعل أن تُكتب مسبقا ردود الفعل على الحادثة إذا كان سيتم تنفيذ إنقاذ كهذا إلى أراضي السلطة الفلسطينية: إسرائيل تغسل جرائمها بواسطة 18 ألف لاجئ حرب. فقد رأينا كيف يتعاملون مع عملية المساعدة في نيبال.
كيف يتم غسل الإبادة الجماعية
كل المشكلة الفلسطينية الآن هي في جبيرة من التثبيتات العقلية، لقادة الدبلوماسية والأيديولوجيا في العالم وفي البلاد. الأسئلة الكبرى في الوضع الحالي هي: من هو اللاجئ؟ ما هي المجزرة، ما هي الإبادة الجماعية؟ ما هو الشعب؟ أو، ماذا تبقّى من القوميّة العربية؟
هذه هي الأسئلة الحرجة، ولكن ذلك لم يزعج فيديريكا موغيريني أن تطالب بشدّة من وراء المنصّة بقسم متكرّر لرئيس الحكومة في موضوع حلّ الدولتين. وذلك لا يزعج فرنسا لتعزز قرارا في مجلس الأمن والذي ينصّ على جدول زمني لانسحاب إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية، حيث إنّ الرئيس الأمريكي يتمايل ولا يضمن مظلّة دبلوماسيّة.
إذن فلنبدأ من السؤال الأخير: لم يتبقّ شيء من القوميّة العربية. ما يسود في رام الله يمكن أن نسميه الحكم السني غربيّ الأردن. كما أنّه لم يعد هناك وجود للدولة العراقية ولا الدولة السورية ولا اللبنانية أو اليمنية، فلم يبقَ شيء من قومية تلك البلدان، وهكذا أيضًا القوميّة العربية تفكّكت تماما. القومية الفلسطينية فقط تستمرّ في الازدهار كمفهوم لا يُقهر؛ لكونها حجر زاوية لما وصفه البروفيسور الراحل روبرت ويستريخ الدين المدني في الغرب والذي يولّد معاداة السامية. مساهمة إسرائيل في الحرب ضدّ داعش هي قبل كل شيء السيطرة على المنطقة السنية الصغيرة غربيّ نهر الأردن، من أجل منع سيطرة عصابات داعش وحماس.
وبخصوص سؤال اللاجئين كما بخصوص قضية الإبادة الجماعية فالإجابات بسيطة: صحيح أنّنا نرى كلّ يوم عشرات ومئات آلاف المسلمين اليائسين يتحرّكون: يفرّون على الجسر من الرمادي، ويهربون من تدمر في سوريا. إنهم يفرّون من كل مكان. ولكن لا تخطئوا: إنهم ليسوا لاجئين، ليس حقّا. في الشرق الأوسط، أو في العالم كله، هناك فقط “اللاجئون الفلسطينيون”. فقط لاجئو الـ 48 محسوبون. ملايين المشرّدين الذين يملأون لبنان والأردن؛ هؤلاء ليسوا لاجئين في الحقيقة، لأنّ “صهيونية” أري شبيت وديفيد رمنيك ليست مشاركة في الموضوع.
وهكذا أيضًا بخصوص الإبادة الجماعية. في الشرق الأوسط، وخصوصا في مناطق الشام، قلب المنطقة، تجري إبادة جماعية. كانوا على حقّ أولئك القلّة الذين ذكروا في ذكرى يوم الهولوكوست بأنّ ما يحدث في سوريا يجب أن يشغل اهتمامنا بالتأكيد بسبب الهولوكوست. ولكن بالنسبة للرئيس أوباما هناك اهتمامات أخرى، رغم أنّ عليه مسؤولية غير مباشرة لنوبة الإبادة الجماعية هذه: التصريحات التي قالها رئيس الحكومة نتنياهو عن عرب إسرائيل في الدقيقة التسعين من الانتخابات الإسرائيلية أكثر أهمية من جميع ما يحدث حولنا. والإبادة الجماعية؟ لأجل ذلك هناك عملية “الجرف الصامد”. الهولوكوست؟ مذبحة اللد عام 1948 أكثر أهمية ليهود الولايات المتحدة من الهولوكوست.
والنتيجة هي بطبيعة الحال “تحليل الإبادة الجماعية”. للجميع. للفلسطينيين أيضًا. إذا لم تطأ قدم الرجل الأبيض في المنطقة، وإذا لم تكن هناك الأحذية العالية لوحدات الجيش الإسرائيلي: فكل شيء مسموح. وخصوصا إذا تحدّث أبو مازن وصمت بان كي مون.
نشر هذا المقال على موقع ميدا