محمود عباس يُحرج نفسه ثانيةً. كرر أبو مازن، خلال خطابه أمام البرلمان الأوروبي، الترهات ذاتها التي وردت في “الخبر” الذي انتشر في وسائل الإعلام الفلسطينية قبل أيام، والذي جاء فيه أن ” رئيس مجلس المستوطنات” أمر بتسميم مياه الشرب وآبار الفلسطينيين في الضفة الغربية. وقد غيّر الرئيس الفلسطيني العبارة لتُصبح “قبل أسابيع فقط، طلب بعض الحاخامات في إسرائيل من حكومتهم أن تُسمم المياه لقتل الفلسطينيين”. بعد يوم واحد فقط تراجع عن تصريحاته من خلال بيان صدر عن ديوانه.
ولكن، ضرر قد حدث: اتُهِم عباس بالترويج والتحريض معاد للسامية – تُهمة مُستهلكة ومتوقعة تُبعد الأنظار عن الظواهر الخطيرة الحقيقية التي تُميز القيادة الفلسطينية العُليا: الانقطاع وعدم الإصغاء للواقع الحقيقي اليومي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، غياب التنسيق وتبادل المعلومات والأفكار بين وزارات السلطة والسلطة التنفيذية، الاعتماد على مُقربين مُتملقين وعلى الإعلام المحلي، الذي لا يتحقق من المعلومات، وفي أحيان كثيرة لا يُدقق في معلوماته، ويُبالغ أيضًا عندما تكون الحقيقة عن سياسة إسرائيل وذات طابع تجريم كبير.
ووفق وكالة “رويترز” للأنباء، لم تكن الجُملة التي قالها مُتضمنة في النسخة الرسمية لخطابه (المُمل وغير الواضح)، الذي وزعه ديوانه مُسبقًا. يبدو أن ذلك كان مُرتجلاً، كما الحال في اجتماعات حركته أو لقاءاته مع الطلبة الجامعيين الإسرائيليين، عندما صرح أن “التنسيق الأمني مُقدس”. وفق ما ورد في “نيويورك تايمز”، فإن ذلك “الخبر” قد ظهر في موقع أحد مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية (لم يُذكر أي واحد منها) ومن هناك وصل إلى موقع وكالة الأنباء التركية الرسمية “أناضول” وإلى صحيفة في دبي. رصد مركز متابعة وسائل الإعلام الفلسطينية تقريرًا بثه التلفزيون الفلسطيني الحكومي بتاريخ 20 حزيران، جاء فيه أن جمعية حقوق المواطن في إسرائيل “كشفت” عن فتوى أطلقها حاخام اسمه شلومو ملمد. ولكن ليس هناك مجلس اسمه مجلس المستوطنات، ولا يوجد حاخام اسمه شلومو ملمد، وحتى أن جمعية حقوق المواطن في إسرائيل لم “تكشف” ما قيل إنها كشفت عنه- هذا ما توصلت إليه صحيفة “جيروزاليم بوست” (كما أورد مركز مُتابعة وسائل الإعلام الفلسطينية).
لو كان عباس على اطلاع على الواقع، لتحدث في بروكسل عن الماء، المشكلة المُلحّة التي يواجهها شعبه في فصل الصيف، كتوضيح للواقع اللامعقول الذي يعانيه الفلسطينيون: كان يمكن أن يقول “نحن (ومعنا أوروبا)”، “مُتمسكون باتفاق أوسلو بعد 17 سنة من انتهاء مدته، كممر لإقامة دولة فلسطينية. ولكن، انظروا كيف تستغل إسرائيل صبرنا لتستمر بفرض سياسة الخصخصة غير الإنسانية لمصدر المياه الوحيد الذي لدينا” (أصبح الإسرائيليون اليوم يستغلون 86% من مخزون المياه الجوفية في الجبل. الكمية القليلة المُتبقية – 14% – تُرمى للفلسطينيين). كان يُمكن أن يتحدث عن شركة “مكوروت”، التي تُقنن من كمية المياه المُخصصة لمنطقة سلفيت من أجل تأمين الطلب المتزايد على الماء في المستوطنات، بدلا من التحدث عن تسميم المياه.
صحيح، هناك الكثير من الحاخامات الذين قالوا أقوال مريعة عن العرب أو عن غير اليهود عموما. وكذلك، في إطار تنكيل مواطنين إسرائيليين يهود في القرى الفلسطينية في الضفة الغربية – في الماضي أيضًا واجهنا هذه الطريقة المُتمثلة بإلقاء الجيف في آبار الماء (سواء كان فيما يخص مُجمع مياه الأمطار في قرية خروبة في جنوب جبل الخليل، أو في بئر مياه الينبوع، في مادما، جنوب نابلس). ولكن، يكفي القليل من المنطق لإدراك أن ذلك “الخبر” خال من الصحة. يشرب اليهود والفلسطينيون من مجمع المياه ذاته. إن “تسميم المياه” معناه الإضرار بالجميع. يُمكن للقليل من الوعي التاريخي أن يفيد هنا، ويجعل عباس ينتبه عندما يستخدم الكلمات ماء، تسميم، يهود.
ولكن، هكذا الحال عند الاعتياد على مفهوم الحاكم الواحد الذي هو الآمر الناهي، الذي يخرق قرارات القيادة العامة (وغير المُنتخبة)، التي ترفض المرة تلو الأخرى إجراء انتخابات في فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، والذي يستفيد من صمت البرلمان والذي لا يسمح بوجود عملية ديمقراطية لانتخاب وريث أو ورثة، ليوفر على شعبه فراغًا خطيرًا في السلطة عندما يرحل.
تم نشر هذا المقال للمرة الأولى في صحيفة “هآرتس”