لا يمكن ذكر المرات الكثيرة التي سمعتُ فيها دمج الجملتين “إنكار المحرقة” و “أبو مازن”، فقد كُتِب الكثير من المقالات الأكاديمية والصحفية الإسرائيلية حول الموضوع، محاولة للإجابة عن السؤال “هل أبو مازن هو الناكر الأكبر للمحرقة؟”.
منذ أكثر من 11 عاما، يشغل محمود عباس، أبو مازن، منصب رئيس السلطة الفلسطينية وما زال الرأي العام حول آرائه عن الصهيونية، في إسرائيل على الأقل، يتعرض لحالات من المد والجزر. إن الجدال والنقاش حول النظريات التي دعمها أبو مازن في الثمانينيات، أثارت جدلا بين اليمين واليسار في السياسة الإسرائيلية والأكاديمية الإسرائيلية.
تجدر الإشارة إلى أن أبو مازن، عارض الكارثة بتاريخ 27 نيسان 2014 قائلا إن “المحرقة هي أبشع جريمة في العصر الحديث”، وموضحا أيضا أن الهولوكوست هو نتيجة التمييز العرقي والعنصري، وإن الفلسطينيين يرفضونه.
حدثت حادثة أخرى قبل ذلك بعشرة أيام، عندما سافرت بعثة من طلّاب جامعيّين للالتقاء بأبو مازن في المقاطعة في رام الله. إذ تطرق عباس في خطابه إلى الاتهامات الموجهة ضده قائلا: “هناك من يقول أن أبو مازن ينكر المحرقة؟ أنا، هيك بقولوا، أنكر المحرقة. كيف ينكر المحرقة؟ كتب كتابا وأنكر المحرقة. قرأت الكتاب يا سيدي؟” وأضاف متهكما ومجيبا بنفسه: “لا والله، سمعت”.
خطاب الرئيس محمود عباس أمام الطلاب الجامعيين الإسرائيليين: يبدأ تطرقه إلى المحرقة في الدقيقة 32:25
حتى أن متحف “ياد فاشيم” قد نشر ردا على أقوال أبو مازن حول الموضوع: “لمزيد الأسف، فإن إنكار الهولوكوست وتشويه الحقائق حولها شائعان في العالم العربي بما في ذلك بين الفلسطينيين. لذلك، فإن تصريح محمود عباس أن “المحرقة هي أبشع جريمة في العصر الحديث”، ربما يشير إلى تغيير نتوقع حدوثه في مواقع الإنترنت، البرامج التعليمية، وحديث السلطة الفلسطينية”.
ورغم تصريحات أبو مازن، يحاول باحثون إسرائيليّون معرفة إذا تراجع أبو مازن عن مواقفه حول الصهيونية والمحرقة حقا، منذ الثمانينيات أو أنها لم تتغير؟
أحد الباحثين هو دكتور إيدي كوهين، من قسم الدراسات الشرق أوسطية في جامعة بار إيلان، ورئيس منتدى “كيديم” لدراسات الشرق الأوسط. في حديث معه حول كتابه الجديد “المحرقة النازية في عيون محمود عباس” (مجموعة مترجمة ومحررة ألفها أبو مازن) حاول دكتور كوهين أن يوضح لماذا يعتقد أن أبو مازن “ما زال الناكر الأكبر للمحرقة” وفق ادعائه.
يعتبر دكتور إيدي كوهين نفسه لاجئا يهوديا. كانت عائلته (الجيل الثالث في لبنان) جزءًا لا يتجزأ من وادي أبو الجميل في حارة اليهود في لبنان، ولم ترغب في مغادرة لبنان والقدوم إلى إسرائيل. ولكن في التسعينيات، اضطر دكتور كوهين إضافة إلى معظم أفراد الجالية اليهودية، إلى أن يصبح لاجئا ويغادر لبنان إثر ملاحقة حزب الله واضطهاده. كان حزب الله مسؤولا عن خطف وقتل وحشي لـ 12 شخصا من الجالية اليهودية، ومن بينهم والده.
“تجدر الإشارة إلى أن إنكار المحرقة لا يشكل نفيا بحد ذاته فحسب، بل تقليصا لحجم هذه الكارثة، إخفاء الحقائق، إنكار المسؤولين الحقيقيين وإخفاء آثارهم. ويرتكب أبو مازن كل هذه الأعمال”، وفق ادعاء دكتور كوهين ردا عن السؤال لماذا ما زال هناك انشغال قهري حول التساؤلات فيما يتعلق بإنكار أبو مازن للمحرقة رغم أنه شجب هذه الكارثة كثيرا.
من جهته، يعتقد دكتور كوهين أن هناك تلميحات مبطّنة تشهد على إنكار أبو مازن للمحرقة في عنوان كتابه: “الوجه الآخر: العلاقات السرية بين النازية والصهيونية”. تظهر في كل صفحات كتابه ادعاءات لاساميّة ووصفا للحركة الصهيونية بصفتها مسؤولة عن إبادة اليهود في أوروبا، وهذه نظرية كأن النازيين قد صرحوا بها. يتطرق عباس في كتابه إلى قضية يهود الدول العربية، متجاهلا معاناتهم واصفا واقعا خياليا. يعرف كل مثقف مُطلع على التاريخ إلى حد ما أن كتاب عباس دعائي، ومليء بالرسائل المعادية للسامية العلنية والخفية على حد سواء”.
في المقابل، بادر دكتور كوهين مع مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين إلى نشر صفحة فيس بوك بعنوان “أبو مازن – كفى إنكارا للهولوكوست”، والتي يطالبون فيها أبو مازن إزالة النسخة الإلكترونية من كتابه من موقع السلطة الفلسطينية، والذي يظهر فيه الكتاب كاملا. في إطار هذه المبادرة، تمّ رفع فيديو باللغة العربية، دُعي فيه عباس إلى التراجع عن كتابه، وإزالته من موقع الإنترنت الخاص بالسلطة الفلسطينية وإدخال موضوع الهولوكوست إلى البرنامج الدراسي التابع للسلطة الفلسطينية.
ما هي معلومات البحث الجديدة التي تقدمها في كتابك الجديد، غير معروفة حول النظرية التي حاول أبو مازن في الثمانينيات بحسبها دفع العلاقة بين الصهيونية والنازية قدما؟
“في مقدمة الكتاب، (صدرت الطبعة الأولى منه في عمان عام 1984، وتستند إلى رسالة الدكتواره التي تقدم بها عباس لنيل درجة الدكتوراه في الجامعة الروسية) يتطرق عباس إلى قضية عدد ضحايا المحرقة، مشيرا إلى أن “هناك ادعاءات” أن عدد الضحايا كان ستة ملايين، ولكن وفق أقواله ليس في وسع أحد تأكيد هذه الأقوال أو دحضها: “قد يكون عدد ضحايا اليهود ستة ملايين، أقل منه بكثير، وربما أقل من مليون”. في هذه المرحلة، يشدد عباس على أن “الجدل الذي يدور حول عدد الضحايا اليهود، لا يحد من الأعمال الفظيعة التي ارتُكِبت بحقهم أبدا، موضحا أن حقيقة قتل الإنسان – شخص واحد فقط – هي جريمة لا يمكن قبولها في العالم الحضاري، وهذا عمل غير إنساني”. ولكن بعد أن أدى واجب الشجب، بدأ بشن هجوم: “بحث الكثير من الباحثين في عدد الضحايا – ستة ملايين – متوصلين إلى استنتاجات مدهشة، تشير إلى أن عدد الضحايا اليهود هو مئات الآلاف”. ويقتبس عباس في الصفحة ذاتها أقوال المؤلف الكندي، ناكر المحرقة، روجيه ديلورم.
ويدعي دكتور كوهين أثناء المقابلة بأكملها أنه طرأت حالة أشبه “بصمت مؤسسي متعمد. لا يتم التطرق إلى هذا الموضوع إطلاقا. لم يجرأ أحد على الكشف عن نظرية عباس. فلم يرغب أحد في تشويه صورته بصفته “معتدلا وداعما للسلام”. في الوقت ذاته، يتهم “متحف ياد فاشيم بسبب عدم نشره مقالا واحدا حول نظرية عباس أو كتابه. اختارت مؤسسات أكاديمية أخرى تجاهل الموضوع، ويثبت هذا عدم الحرية الأكاديمية الحقيقية في إسرائيل”.
كيف تفسّر حقيقة أنه لم ترغب أية دار نشر تحمل مسؤولية نشر كتابك؟ هل من الممكن أنك تعمل بدوافع سياسية تهدف إلى “تشهير أبو مازن”؟
“في السنوات الماضية، نشرت مقالات كثيرة حول الموضوع في الإعلام الإسرائيلي والعالمي. فاقترح علي الكثير من زملائي التوقف عن الكتابة، لئلا تتضرر سيرتي الأكاديمية. رغم ذلك، كان لدي دافع الكشف عن أيديولوجيّة عباس وفق ما تظهر في كتابه. رفض الكثير من دور النشر ومدراء الأقسام مساعدتي. أوضح لي الكثير منهم، في محادثات مغلقة، أن نشر كتاب كهذا، قد يؤثر في المساعدات المالية من الصناديق الأوربية. في متحف “ياد فاشيم” هناك قلق أيضا من رسم صورة عباس المتطرفة حول موضوع المحرقة”.
هل حاولت معرفة ردة فعل عباس حول كتابك؟
“لقد حاولت كثيرا، ولكن لم يرغب أحد في الإجابة. يعرفني الكثيرون في وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية وحاولت الحصول على رد فعل عبر الكثير من زملائي، ولكن دون جدوى”.
كما ذُكر آنفًا، تستند غالبية ادعاءات دكتور كوهين ضد عباس على الكتاب الذي كتبه إذ يدعي فيه أن المحرقة هي مؤامرة صهيونية – نازيّة. يصف عباس الحركة الصهيونية وقادتها، أمثال دافيد بن غوريون، بصفتهم “متعاونين” تسببوا في إبادة يهود أوروبا. ادعى عباس أيضا أن القادة الصهاينة اعتقدوا أن في وسع كارثة تاريخية كهذه تهجير اليهود إلى أرض فلسطين، وهو أمر يكون مُبررا من قِبل المجتمع الدولي لاحقا”.
أكثر ما أثار دهشة الدكتور كوهين هو ادعاءات أبو مازن أن اليهود تجاهلوا تماما أقوال هتلر وتعاونوا معه، حتى أنهم شجعوا اللاسامية أيضا. “ادعى عباس أيضا أن الصهاينة ألحقوا ضررا عمدا بجهود الإنقاذ التي بذلتها المجتمعات اليهودية في رومانيا، هنغاريا، سلوفاكيا، ودول البلطيق، بما في ذلك الحملة لإنقاذ 3.000 يهودي في هنغاريا”.
لا يتطرق كفاح دكتور كوهين إلى إنكار المحرقة من قِبل أبو مازن فحسب، بل إلى من تعاون وفق رأيه بشكل فعال مع النظام النازي والقصد هو الحاج أمين الحسيني
“هناك أهمية لمعرفة الدافع لدى عباس باتهام الصهيونية بالمحرقة. فمن المرجح أنه يرغب في ذلك إخفاء أعمال وجرائم من تعاون حقا مع النازيين وكان مخلصا لهم؛ هؤلاء الذين دفعوا قدما مصالح النازيين في كل مكان، لا سيّما في الشرق الأوسط؛ الذين حرضوا ضد اليهود بإشراف النازيين، ومنعوا هجرة الأطفال اليهود إلى فلسطين. إن المسؤولين بشكل مباشر وغير مباشر عن وفاة آلاف الأطفال اليهود أثناء الكارثة، ليس سوى زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية، مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني وحاشيته، الذين عاشوا في ألمانيا النازية بين عامي 1945-1941. بعد الحرب، وُجه نقد ثاقب حول التعاون والتحالف الذي قطعهما المفتي مع النازيين، وتجنبا لذلك، اختار عباس التركيز بشكل خاص على اتهام الضحايا – اليهود – بالجرائم النازية، متجاهلا تماما كافة النشاطات السياسية والمعادية للسامية للمفتي في كتابه”.
https://www.youtube.com/watch?v=2-bIEOmFaJE&index=16&list=FLi3L4vta7ZBA-4F5iyPEOzg
يعارض الكثير من الباحثين الإسرائيليين والعالميين آراء دكتور كوهين. إذ يدعي معظمهم أن الانشغال القهري والاقتباسات المتكررة في الدراسة التي أجراها أبو مازن في الثمانينيات لا تعكس آراءه بشكل صادق حاليا.
كتب أبو مازن خلافا لخلفه، أبو عمار الذي لم يترك وصية مكتوبة، كثيرا عن آرائه السياسية وطموحاته الوطنية الفلسطينية. فقد كتب كثيرا عن الأعمال الأكاديمية التي قام بها، حتّى الآن، في مقالات، كتيّبات وكتب، إذ تُرجِم القليل منها إلى الإنجليزية. في موقع السلطة الفلسطينية، هناك نسخات لنحو 16 كتابا وكتيّبات نُشرت بين عامي 1977—2003، وهي الفترة التي استقال فيها عباس من منصب رئيس الحكومة الفلسطينية في عهد عرفات، ونُشرت مجددا في رام الله عام 2011. هناك حتى من يدعي، أن دراسة المواد الجديدة بما في ذلك تصريحات أبو مازن في السنوات الماضية ضد المحرقة تثبت أن آرائه حولها قد تغيّرت، وتغير تعامله مع الصهيونية وأصبح معتدلا أكثر.