“القدس تشتعل”، لا يوجد مصطلح مبتذل وأكثر استخداما من هذا المصطلح. “الذعر في القدس” يتصدّر العناوين في الأسبوعين الماضيَين: مواجهة المصلين الفلسطينيين المسلمين ضدّ قوات الأمن الإسرائيلية، مقاطع فيديو تغرق الشبكة ومجموعات الواتس آب والفيس بوك تكهرب الجوّ الثقيل بين إسرائيل وفلسطين. تطرّف جديد يشعل نار الكراهية بين كلا المعسكرين حول مدينة واحدة، والتي كان من المفترض أن تكون صانعة للسلام.
وفجأة أجد بين شتات شبكة الإنترنت دعوة مثيرة للاهتمام، والتي أشعلت خيالي على الفور. إنها دعوة لمهرجان البيرة السنوي في الطيبة. ولمن لا يعلم، فإنّ قرية الطيبة هي قرية فلسطينية مسيحية في ضواحي مدينة رام الله، وقريبة من القدس. في نهاية الأسبوع الأخير (السبت والأحد) احتفلت الطيبة للمرة الحادية عشرة بمهرجان البيرة الألماني Oktoberfest.
تم الاحتفال بالمهرجان في الطيبة، وهي موقع مصنع البيرة الوحيد في فلسطين، والمحاطة ببلدات مسلمة متديّنة ومستوطنات. لأمر ما كان يبدو أن الحديث عن جزيرة واحدة ووحيدة من التعقّل، في بحر من الكوارث والألم الكبير. في كل عام ينجح منظّمو المهرجان، عائلة خوري، أصحاب مصنع البيرة، في جلب نكهة دولية للمنطقة، بالإضافة إلى تدفق المواطنين الأجانب الذين يسكنون، يدرسون أو يعملون في القدس ورام الله. قد لا يُصدّق ولكن المهرجان قد نجح أيضًا في جلب تل أبيبيين، في الغالب من اليساريين، والذين يأتون لدعم الاقتصاد المحلي وللتضامن مع الأجواء الحرة التي تمنحها التلال الخضراء المحيطة بملكية عائلة خوري.
بيعت البيرة المحلية في الطيبة، والتي تعتبر محببة أيضًا في الأيام العادية للكثير من الإسرائيليين، وتحظى بمبيعات جيدة في الحانات في تل أبيب والقدس، بسعر يُعتبر بالنسبة لمعظم الإسرائيليين سخيفا: 15 شاقل (3.75 دولار) للكأس.
ذهبت مع بعض الأصدقاء إلى مدخل المهرجان، الساحة الخلفية لمصنع البيرة، ودُهشت من عدد الأشخاص الذين تجمّعوا حول نقاط الشرب والطعام. تجمّع آلاف المحتفلين وشربوا بيرة الطيبة باردة ومثلّجة. وفي الخلفية سُمعت موسيقى فلسطينية معروفة. كان الجوّ لطيفا وباردا بالنسبة لأشهر الصيف الساخنة. يمكن من بعيد أن نرى عدة قرى مسلمة هادئة ومن الجانب الآخر يمكن أن نرى عدة مستوطنات يهودية أيضًا. كانت الأجواء هناك، رائعة لم أكن معتادا عليها في الآونة الأخيرة. سمعت أذني خليطا من عدة لغات: عربية، عبرية، ألمانية، فرنسية ويابانية. شبان وفتيات جميلون إلى جانب الأسر مع الأطفال الذين كانوا يركضون ويلعبون بمختلف المرافق المنتشرة في المكان.
قدمت إلى المعرض مجموعة متنوعة من التجار في المنطقة، والذين جلبوا معهم أفضل ما يمكن أن يقدمه المطبخ الفلسطيني: زيت الزيتون من صناعة محلية، فلافل، شوارما منزلية، خبز الطابون مع الزعتر واللبنة، البسكويت الحلو، الفشار بالإضافة إلى أطباق السمك والبطاطس.
كنا أنا وأصدقائي مذهولين خلال عدة ساعات من عدد الزوار، الحرية التي أطلّت من أعين الشباب الفلسطيني والأجانب الذين تجمّعوا في مجموعات وتحدّثوا عن الموسيقى والثقافة والقليل من السياسة، حيث لا يمكن الانقطاع تماما.
تم تأسيس مصنع البيرة عام 1994 من قبل الأخوين داود ونديم خوري، من مواليد القرية، واللذين عاشا سنوات طويلة في الولايات المتحدة. أنهى نديم خوري دراساته الجامعية في صناعة البيرة في جامعة كاليفورنيا، وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قرّر العودة إلى القرية حيث موطنه وإقامة مصنع بيرة فريد مع شقيقه ووالده. وقد أقاموا المصنع، على أرض في ضواحي القرية، بواسطة معدّات قاموا بشرائها من الولايات المتحدة ومواد استوردوها من أوروبا.
تم إنتاج البيرة الأولى من صناعة مصنع بيرة الطيبة عام 1995، وهي بيرة فاتحة اسمها “Golden”، وخلال أسابيع قليلة وصلت مبيعاتها لآلاف الزجاجات في الأسبوع. بدأ تصدير البيرة إلى الأردن وإسرائيل ومع رسوخ نجاحها تم إنتاج ماركة بيرة أخرى عام 2000، تحت اسم “Dark”. وقبيل نهاية العام نفسه اندلعت الانتفاضة الثانية، وأضر الواقع الجديد من التوتر الأمني والحواجز كثيرا بالتسويق والتوزيع. علقت حاويات كاملة من البيرة في الجانب الفلسطيني من الحاجز، وتلفت بضاعتها. في عام 2005 فقط بدأ يحصل انتعاش، إذ ارتفع حجم الإنتاج مجدّدا، واستقر التسويق بنحو 300 ألف زجاجة في السنة، بما في ذلك التصدير لأوروبا، الولايات المتحدة واليابان.
ومن أجل تشجيع المبيعات في السوق الإسرائيلية حصل مصنع البيرة في الطيبة على شهادة بكونها موافقة للشريعة اليهودية من حاخام المستوطنة المجاورة عوفرا. ولا تزال هناك صعوبات أمنية في التسويق لإسرائيل، ورغم الملاحظات الممتازة التي تحصل عليها البيرة في السوق فهي تواجه صعوبات في تحديد الماركة. من أجل التغلب على التقييدات والعراقيل في التسويق لأوروبا من خلال موانئ إسرائيل ومطاراتها، بدأ مصنع للبيرة في بلجيكا عام 2007 بإنتاج منتجات بيرة الطيبة المعدّة للسوق الأوروبية بعد حصوله على الامتياز، وتم تسويقها من قبل شركة ألمانية.
ومن الجدير ذكره أنه من خلال محادثاتي الكثيرة مع المحتفلين سمعت انتقادا غير قليل لتوقيت المهرجان، ولأنّه ربّما كان يجب إلغاء المهرجان على ضوء التوتر الأمني. من جهة أخرى سمعت عددا غير قليل ممّن يؤيّدون قرار الاحتفال رغم ذلك. قالوا إنه لا يمكن الاستمرار في الحياة بالواقع الدموي طوال الوقت، وإن مثل هذه المناسبات هي ملجأ مهم للشباب وأيضا هي حجر اقتصادي صلب في بحر من العواصف الاقتصادية التي تضرب المدن الفلسطينية.
ومع حلول المساء، ازداد عدد زوار المعرض وكان من الصعب العثور على ركن هادئ والاستمتاع بكأس آخر من البيرة المثلجة، وهو دليل على نجاح المهرجان الذي تنظّمه منذ يومه الأول، ابنة القرية، ماريا خوري.
وعند الخروج وقفت طوابير لا نهاية لها من الشبان الذين أمسكوا بإحدى الأيدي كؤوس من البيرة وفي اليد الأخرى الهواتف الذكية، والتقطوا صور السيلفي معا للتذكار. كلما تقدّمنا باتجاه السيارة والموقف الخارجي تلاشت شيئا فشيئا أصوات الضوضاء والموسيقى التي كانت قادمة من مكبرات الصوت على المنصة الرئيسية وتم استبدالها بالسيارات والحافلات الكثيرة التي نقلت الشبان من المهرجان إلى البيت، أو من القرى المجاورة إلى المهرجان.