في مطلع يناير/ كانون ثاني 2006 استضاف قيادي بارز في حركة فتح مجموعة من الدبلوماسيين العرب والاجانب للحديث عن الانتخابات المرتقبة للمجلس التشريعي الفلسطيني وحظوظ كل من الحركتين الأكبر – فتح وحماس – في هذه الانتخابات. ورجّح القيادي الفتحاوي ان تفوز حركته بالأغلبية الساحقة لمقاعد التشريعي. وعند سؤال دبلوماسي مصري عن الوضع في محافظة الخليل المعروفة بكونها مؤيدة لحركة حماس أكثر من أي منطقة اخرى في الضفة الغربية، رجّح القيادي الفتحاوي بأن تفوز حركته بكافة مقاعد الاقتراع المباشر التسعة وانه اذا ما وقع خطأ في تقديراته فانه سيقتصر على فوز الشيخ نايف رجوب بمقعد وحيد لصالح حماس بينما سيفوز نواب فتح بالمقاعد الثمانية المتبقية في المحافظة.
ولم يخطئ القيادي كثيرا في تقديراته بالنسبة للرقم، فقد جاءت بالفعل النتيجة في محافظة الخليل 9:0، لكن الـ 9 كانت جميعها مقاعد لنواب حماس بينما لم تفز حركة فتح باي مقعد في المحافظة. صحيح أن حركة حماس متجذرة في هذه المحافظة المحافِظة لكن النتيجة جاءت تعبيرا عن الانقسام في حركة فتح، كون الحركة رشحت عنها 9 مرشحين في قائمتها الرسمية بينما قرر من لم يحظ بترشيح رسمي من قبل الحركة بالترشح بشكل مستقل. فأمام مرشحو حركة حماس التسعة تنافس ما يقارب الـ20 مرشحا عن حركة فتح، 9 منهم في قائمة الحركة الرسمية، والبقية كمستقلين، وهو الأمر الذي تكرر في كافة المحافظات من دون استثناء، وهو الأمر الذي استفادت منه حماس في كافة المواقع للفوز بأول انتخابات فلسطينية حقيقية إذا ما اعتبرنا ان انتخابات عام 1996 اقتصرت على حركة فتح وبلا منافسة حقيقية.
هذا الانقسام داخل حركة فتح ليس وليد الفترة الأخيرة ولا حتى فترة ما بعد أوسلو. فقد شهدت الحركة انقسامات في السبعينات والثمانينات مع انسحاب القيادي ابو موسى وإقامة “فتح الانتفاضة” ومن قبله القيادي صبري البنا وقيام “فتح المجلس الثوري”. وقد هدّد انشقاق كبير الحركة عدة أيام قبل تقديم اللوائح الإنتخابية للحركة في العام 2006 حيث بحث القياديان البارزان فيها، مروان برغوثي ومحمد دحلان، إمكانية تشكيل قائمة منافسة لقائمة الحركة الرسمية متهمين القيادة بإقصاء الوجوه الشابة والإبقاء داخل القائمة على الرموز والقيادات القديمة.
وبعد 50 عامًا من إنشاء الحركة يبدو أن النزاعات الداخلية تبقى احدى ابرز علامات الحركة حتى في يومنا هذا. فقد سيطر على الحياة الحركية في الأسابيع الأخيرة التراشق الإعلامي حامي الوطيس الذي دار بين رئيس الحركة ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس ابو مازن وبين القيادي في الحركة – والمفصول منها رسميا – محمد دحلان، والذي اتهم خلاله كل من الرجلين الطرف الآخر بالضلوع في مقتل ياسر عرفات وفي خسارة الانتخابات وقطاع غزة لصالح حركة حماس وبالتعاون مع إسرائيل، بالإضافة إلى الضلوع في قضايا فساد ألحقت أضرارا مادية كبيرة بالاقتصاد وبالمواطن الفلسطيني. هذا التراشق الإعلامي أحبط أعضاء وجمهور الحركة، وزاد من عدم ثقتهم بقدرة القيادة الحالية على توحيد صفوفها وتوحيد الحركة المنقسمة بين معسكرات الرموز وبين الضفة والقطاع وبين الداخل والخارج.
صحيح أن محمود عباس نجح بحسم الموقف داخل الحركة التي صوتت لصالح فصل دحلان من صفوفها رسميا، وسط موافقة اللجنة المركزية ووقوف الغالبية الساحقة من القيادات الى جانب رئيس الحركة، لكن دحلان يوضح في كل مناسبة أنه يرفض قرار الحركة ويعتبر نفسه جزءا منها. وبالفعل لم نسمع عن محاولات لدحلان لتأسيس حركة منافسة يقودها هو، بل لا زال الرجل يحاول كسب المزيد من الداعمين له في صفوف قيادات الصف الثاني والثالث وقواعد الحركة ويمكن القول إن هذه الجهود تتكلّل بالنجاح النسبي لغياب شخصية قيادية أخرى يمكن لكوادر وقواعد فتح اعتبارها قادرة ومؤهلة لقيادة الحركة.فالمفارقة هي أن غالبية الحركة وقفت مع رئيسها في صراعه الأخير مع دحلان لكن الغالبية نفسها ترى في دحلان الأنسب لقيادتها بعد ابي مازن لعلاقاته الدولية والعربية ولقدرته على مواجهة حماس إذا ما فشلت جهود المصالحة مستقبلا.
ويعتبر الكثيرون من أعضاء حركة فتح أن طرح اسم مروان برغوثي في جولة المفاوضات الأخيرة بين السلطة الفلسطينية وبين إسرائيل والمطالبة بالافراج عنه من قبل رئيس السلطة ابو مازن- أن هذه المطالبة تأتي أساسا في هذا السياق قبل اي سياق آخر، اي أن قبل الجانب الانساني هناك غاية سياسية حزبية داخلية من هذه المطالبة وهي إعادة البرغوثي الى الواجهة وطرحه مجددا كمنافس على قيادة الحركة أمام دحلان.
ويقحم النقاش والصراع التنظيمي المفاوضات مع إسرائيل في الصراعات الشخصية. فقد يرى منافسو ابو مازن، وعلى رأسهم محمد دحلان، ان استمرار المفاوضات مع الحكومة الحالية في إسرائيل، لن يجدي نفعا وسيضر بالمصالح الفلسطينية وبحركة فتح. الادعاء هذا يجد آذان صاغية عند الكثيرين من كوادر الحركة في المناطق المختلفة وخاصة عند من كانوا في الماضي قيادات في كتائب شهداء الأقصى – الجناح العسكري لفتح – خلال الانتفاضة الثانية. فالسلطة الفلسطينية تسعى جاهدة مؤخرا من خلال عمليات مداهمة واعتقالات وتحقيقات خاصة لكوادر في مخيمات اللاجئين في منطقتي نابلس وجنين وغيرها، لمنع عودة هؤلاء، ومجموعات جديدة من الشباب، إلى العمل العسكري ضد إسرائيل وسط تقارير تجمعها أجهزة السلطة الأمنية أو معلومات تتلقها هذه الأجهزة من الجانب الإسرائيلي، عن قيام هؤلاء الشباب بمحاولة شراء أسلحة والاتجار بها لاستعمالها في المستقبل ضد اسرائيل.
وقد اتهم مقربون من ابي مازن دحلان ومقرَبيه بتشجيع هذه الظاهرة وتمويلها بهدف اضعاف القيادة الفلسطنية وربما الإطاحة بها، إذ لم يتورع عدد من القيادات الفتحوية باتهام دحلان بالتخطيط لانقلاب يطيح بعباس. وتشير معلومات متوفرة في إسرائيل إلى زيادة النشاط المعادي لإسرائيل بين صفوف كوادر سابقين في الكتائب ومجموعات وأفراد جديدة بدأت تفكر او تتنظم للقيام بمثل هذا النشاط.
عودة بعض مظاهر الانفلات الأمني هي ليست المشكلة الرئيسية الوحيدة التي تواجه قيادة الحركة. إن مشكلة وضع الحركة في قطاع غزة لا تقل أهمية من الناحية السياسية والتنظيمية عن خطورة العودة للفلتان الأمني في الضفة. فالوضع في الضفة، رغم تعقيده، يختلف عن غزة، ففي غزة لا يوجد عنوان واضح للحركة، والكثيرون من أعضاء الحركة يعتكفون النشاط الحزبي لشعورهم بالاهمال من قبل قيادة الحركة، وآخرون يبحثون عن قنوات نشاط أخرى، ومجموعة ثالثة من النشطاء منقسمة بين معسكر قيادة الحركة الرسمية وعباس وبين معسكر محمد دحلان. وبشكل عام تعاني الحركة من شلّل تنظيمي في القطاع ومن انقسام حاد بين المعسكرين المذكورين.
وفي هذه الظروف ليس مفاجئا أن الجناح العسكري للحركة في قطاع غزة ما زال ينشط عبر زرع العبوات مستهدفا القوات الاسرائيلية على الحدود وعبر اطلاق الصواريخ بين حين وآخر. ويعتبر قيادات في الحركة استمرار النشاط العسكري للكتائب في قطاع غزة، انه يأتي تماشيا مع الأجواء في القطاع ولعدم الرغبة في البقاء خلف التنظيمات الأخرى من الناحية العسكرية، ولكن “يأتي هذا النشاط تعبيرا عن عدم رضى هذه الكوادر في الحركة من وضعهم ووضع حركتهم، والوضع المتأزم في القيادة والانقسام بين القيادات وعدم بلورة رؤية واضحة لأخذ القطاع والفتحاويين فيه بحسابات الحركة رغم الزيارات التي تأتي بين الحين والآخر لقيادات مثل: نبيل شعث وعزام الأحمد، للقطاع” حسب أقوال قيادي فتحاوي في القطاع.
ومع كل هذا، يجمع الغالبية من القيادات والكوادر والمحللين المستقلين على أن رغم الأزمة التنظيمية والسياسية وأزمة القيادة الا ان حركة فتح ما زالت تتمتع بحضور قوي في الشارع وما زالت تستقطب قطاعات واسعة وكثيرة من الشارع الفلسطيني، وان الأزمة الحالية رغم صعوبتها فهي لا تهدّد مجمل وجود وبقاء الحركة لكنها بلا شك تحدث مزيدا من التصدعات في صفوفها، تصدعات لم تتحول بعد لانشقاقات مدمرة بسب استمرار المواجهة مع كل من حماس من الناحية الداخلية، ومع اسرائيل من الناحية الخارجية، حيث تمنع هذه المواجهة، وبصعوبة كثيرة، حصول انفجار داخل الحركة يؤدي الى انقسام جديد في صفوفها.