عندما أقيم الكيبوتس الأول سنة 1909، بدا أن هذه بداية مجتمع مثالي تمامًا، كأن حلم ماركس يتجسّد لحمًا ودمًا على أرض إسرائيلية، ويساعد ذلك الصهيونيون على توطيد البلاد والدفع قدمًا. ولكن اليوم، أقل قليلا من مئة سنة بعد ذلك، لم يبق الكثير من تلك المثالية الاشتراكية المزدهرة.
كانت المبادئ بسيطة جدًا: عمل مستقل، مساواة وتعاون في كل مجالات الإنتاج، الاستهلاك والتعليم، وطبعًا، في تكلفة مشتركة على المقتنيات. فعليًا، كان هذا مجتمعًا زراعيًا، زوّد أعضاءه بكل ما يحتاجونه، إذ عمل كل واحد منهم حسب استطاعته، وأخذ ما يحتاجه. لم يكن ملك خاصٌ لدى أحد إلا ما وافقت عليه لجنة الكيبوتس. وأكل الجميع معًا، الأكل ذاته في غرفة الطعام المركزية، نام وتعلم الأولاد معًا ولبسوا نفس الملابس، وعندما كبروا بدؤوا يعملون في الزراعة وساهموا بقسطهم للكيبوتس، كل من النساء والرجال على حد سواء.
في البداية، بدا هذا نجاحًا عظيمًا. فأقيمت كبيوتسات كثيرة، وكل من رأى أنه اشتراكي طلب الانضمام للكيبوتس. ومع قيام دولة إسرائيل في سنة 1948، عاش ما يقارب 8 % من السكان في الكيبوتسات، التي كانت رمزًا صهيونيًّا لحب البلاد والصلة بالأرض. أقيم ما لا يقل عن 267 كيبوتسًا على طول السنين.
مع إقامة الجيش، وعلى مدى سنوات، اعتُبر أبناء الكيبوتسات روادًا في الوحدات القتالية والمشاة المختارة، وكانت نسبة الضباط الذين انضموا من الكيبوتس أعلى من عدد الكيبوتسات في المجتمع.
لكن “قصة النجاح” بدأت في التغيّر في أواخر الثمانينات. فالأزمة الاقتصادية الحادة التي عصفت بإسرائيل ألحقت ضررًا شديدًا بكيبوتسات كثيرة، ولذلك لم تنجح في الاستمرار في نهجها، وكانت هناك حاجة إلى خصخصة قسم من الكيبوتسات، واللجوء للبحث عن مصدر خارجي، ولتقليل أسعار التكاليف قدر الإمكان. في بعض الحالات، بيعت أراضٍ من أراضي أعضاء الكيبوتس، وبدأ يتزعزع مبدأ “المساواة المطلقة” بين أعضائه.
كذلك التواصل بين الأجيال لم يعد قطًا كما كان. فلم يرغب الأشخاص الذين ترعرعوا في الكيبوتس، وعانوا من المعيشة المشتركة في “بيت الأولاد” ( فيه نام الأولاد بعيدين عن آبائهم) منح أولادهم نفس التجربة الشعورية. وبدأ قسم منهم يطلب أكثر فأكثر الخروج من الكيبوتس وتعلم مواضيع حرة لا زراعية، وعندما بدؤوا يربحون أجرًا أفضل مقارنة بأجرهم في الكيبوتس، رفضوا أن يشاركوا دخلهم مع العامّة.
بدأ الكيبوتس، الذي يعتبر تقليديًا نوعًا من “مجتمع آخر”، وتختلف قيمة وأسلوب الحياة فيه من تلك التي في المجتمع العام، بفقدان خاصيته. خُصصت الممتلكات، وأهمِلت الزراعة لصالح الصناعة، وبُدّلا التضامن والتشارك بالمنافسة والصراع على المساحات. لم يعد بالإمكان الحديث عن المدخولات المتساوية، وحتى غرفة الطعام، التي كانت يومًا ما مركز الكيبوتس، فعليا، ولكن بالأساس اجتماعيًا، جماهيريًا وعامّة، تحوّلت إلى ما يشبه “تمثالا تذكاريًا” لما كانت الكيبوتسات عليه يومًا.
في السنوات الأخيرة، يقوى الاتجاه، ولم يبق الكثير من “الكيبوتس الذي كان ذات مرة”. فعدد الكيبوتسات التي ما زالت تدير أسلوب حياة متساويًا وتعتاش على الزراعة هامشيًا، واليوم الحديث بالأساس عن بلدات “خضراء” وهادئة، في الأغلب بعيدة عن المركز، وأحيانًا باهظة التكلفة.
نجح قسم من الكيبوتسات في استغلال الوضع وزيادة التغيير، فبدلت الحظائر بالمصانع، أو بفنادق فاخرة، وأصبحت اليوم الأماكن الفاخرة والرائدة في إسرائيل، وهو وضع أبعد ما يكون عن الاشتراكية والبساطة التي شكّلت المبادئ التي وجّهت الكيبوتسات ذات مرة.
من ناحية أخرى، لحقت خسائر كبيرة بكيبوتسات أخرى، لذلك اضطرت لأسباب أخرى إلى التنازل عن قيّمها الموجّهة. من ضمنها، تبرز في قسم من الكيبوتسات السخافة خاصة حين يقال “أصحاب المزرعة” ويُشغّل بدلا منهم عمال فلسطينيين، الذين يعدّون “أيدي عاملة رخيصة”.
يعيش أولاد الكيبوتس الذين كانوا يوصفون بأنهم كبروا حُفاة في الطبيعة، ونموا بين التبن مع غليون في اليد والحب الحر، اليوم في بيئة لا يمكنها الوقوف في وجه التكنولوجيا والقيّم الرأسمالية.
لم يبقوا الآن روادًا من حيث نسب التجنّد للجيش والوحدات القتالية (وأخلَوا مكانهم لأبناء المستوطنات). هذا، ويشير أحد المعطيات المقلقة والصادمة إلى ارتفاع في نسبة انتحار الجنود الذين غادروا الكيبوتس. ويفضلون أن يتعلموا في الجامعة المحاماة وإدارة الحسابات بدلا من الزراعة، التي تبدو في عالم اليوم أنها لن تساهم في تقدمهم كثيرًا.
“مضت الأيام التي كان بها الكيبوتس مقترنًا بالزراعة والقيّم مثل المساواة والتواضع بروح الاشتراكية”، يقول ذلك أعضاء أصيبوا بخيبة أمل في الحركة الكيبوتسية. حتى أنه قد أقيمت لجنة جماهيرية خاصة كي تفحص التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي حلّت بالكيبوتسات، وأدت استنتاجاتها إلى تفكيك رسمي لقسم من الكيبوتسات التي لم تعد تعتبر جمعيات تعاونية، بل أماكن عادية.
يبدو أن الحلم المثالي قد توارى، وأن المجتمع التعاوني الذي كان مرة صار يشبه أكثر فأكثر المجتمع الرأسمالي التنافسي. أخلى “الحلم الصهيوني” لإنقاذ إسرائيل بالأيدي، بالعمل في الأرض، مكانته للمصانع الصناعية. سواء أكان الحديث عن ظاهرة سلبية أو عن اندماج لا يقاوم وحتى إيجابي في واقع اليوم، يبدو أنه يمكن القول بقدر كبير من اليقين إن الحلم الاشتراكي قد تلاشى.