لقد عبّأوا حقيبة واحدة بأثمن ما يملكونه، غادروا في جوف الليل، أو طُردوا بعنف وتحت الاضطهاد والتهديدات. عندما بدأ يهود الدول العربية وإفريقيا بالوصول إلى إسرائيل بالثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين كانوا يعتبرون “قادمين” وصلوا إلى إسرائيل من أجل الصهيونية، ولكن، هم في الحقيقة لاجئين بكل معنى الكلمة.
لا يعرف الكثيرون ذلك، ولكن تم طرد أو فرار أكثر من 800 ألف يهودي عاش في الدول العربيّة بسبب الاضطهاد. في حرب عام 1948، في الوقت الذي فرّ فيه مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين قاصدين الدول العربية في ما يعرف بالوطنية الفلسطينية بـ “النكبة“، فرّ مئات الآلاف من اليهود إلى الاتجاه المعاكس تمامًا.
عام 1948 كان في الشرق الأوسط أكثر من 800 ألف يهودي. اليوم، في جميع الدول العربيّة يعيش أقلّ من 5,000 يهودي
بين عامي 1944 و 1964، وصل اليهود من سوريا، العراق، اليمن، مصر، المغرب، الجزائر، تونس وغيرها إلى إسرائيل كملاذ أخير، بعد أن أجبِروا على أن يتركوا وراءهم منازلهم، حياتهم، تراثهم، وفي الواقع، بلدان منشأهم.
تاريخيًّا، سكن اليهود في أنحاء الشرق الأوسط منذ السبي البابلي (قبل نحو 2500 عام) وفي شمال إفريقيا منذ العصر الروماني (أقلّ من ألفين عام بقليل). في فترة الاحتلال العربي سكن في المنطقة معظم اليهود في العالم. ومنذ ذلك الحين انتقل مركز العالم اليهودي إلى أوروبا الشرقية، بسبب الهجرة، إسلام اليهود والتنصير في أوروبا. في عام 1940، عاش نحو 16 مليون يهودي في العالم، وفقط 5% منهم، 800 ألف، كانوا في البلدان العربية.
تغيّرت أوضاع اليهود في البلدان العربية بين العصور والمناطق: ففي أحيان اندمجوا مع المجتمع وحظوا بمكانة عالية، وفي أحيان أخرى فُرضت عليهم القيود، ومن حين لآخر كانت هناك مذابح واضطهاد. كتب الأشخاص الذين زاروا العراق في القرن التاسع عشر أنّ اليهود يسيّطرون على الاقتصاد، وكانت الأسواق تُغلق يوم السبت بل وشغل اليهود مناصب حكومية. حين تم إنشاء مهن مثل المحاماة، برز اليهود فيها أيضًا. في سوريا، كان المسلمون أكثر تشدّدًا وفرضوا القيود على اليهود. في شمال إفريقيا، تأرجحت أوضاع اليهود بين الفقر والحياة البسيطة في القرى، حتى كونهم التجار الأكثر موهبة ونضوجًا في المملكة، والذين قدّموا خدماتهم في الديوان الملكي.
في معظم الأحيان، استطاعوا أن يعملوا بما يرغبون، واشتغلوا بشكل أساسيّ في الخياطة، صناعة الأحذية، صناعة الأدوات المعدنية، الأختام، تجارة التوابل، محلات البقّالة، باعة متجوّلون، والتجارة الدولية. وبعض هذه المجالات كانت معروفة كتخصّص حصري لليهود، وكان جيرانهم المسلمون يتوجّهون إليهم في كلّ وقت يطلبون فيه خدماتهم، وأقاموا معهم تجارة ناجحة وحسن الجوار. حتى بدأ كلّ شيء يتغيّر.
مع الوطنية جاءت الكراهية
في القرن التاسع عشر، مرّ العالم العربي بمرحلة الاستعمار: سيّطرت بريطانيا على مصر، وفرنسا على تونس، والجزائر والمغرب، وإيطاليا على ليبيا. بقي كلّ من العراق، سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني، ولكنّها تفكّكت وسيطرت القوى العظمى الغربية عليها بالتدريج، حتى قاموا باحتلالها في الحرب العالمية الأولى.
“اليهود من الدول العربية يمكن أن يشكّلوا نقطة التقاء وجسرًا حضاريًّا بين اليهود الأوروبيين الشرقيين وجيران إسرائيل العرب. نريد أن تُسمَع قصّتنا وتُشمَل أصواتنا”
في البداية، كان الوضع الجديد لصالح اليهود. لقد أصبحوا وسطاء بين أوروبا والعرب، واستغلوا معرفتهم باللغات وعلاقاتهم مع أوروبا، وحظوا بثقة كلا الطرفين. باعوا للأوروبيين الأقمشة، الخيوط والمنتوجات الزراعية العربية والسلع الغريبة مثل ريش النعام من إفريقيا، واستوردوا من أوروبا الملابس والمنتجات الصناعية. أصبح الكثير منهم أغنياءً، وخصوصًا في المدن التي تقع على ساحل البحر المتوسّط والعراق.
في البداية، تقبّل المسلمون مشاركة اليهود باحترام. كان ذلك مريحًا لهم. اعتمدوا على اليهود أكثر من بعضهم البعض، وبالطبع أكثر من سائر المحتلّين الأوروبيين. ولكن في القرن العشرين، حين نشأت الوطنيات العربية والصهيونية، انهارت هذه الثقة ببساطة.
بدأ وضع اليهود يتدهور حتى قبل إقامة دولة إسرائيل. في عام 1932 تحوّلت العراق من الانتداب البريطاني لتصبح دولة مستقلّة وبدأت فورًا بتجريد اليهود. لم يتمّ قبولهم في المدارس والجامعات، وأقالوهم من الوظائف بشتّى أنواع الحجج. قاد هذه القرارات القوميّون العرب والمسلمون المتشدّدون. بدأوا بدعاية مفادها أنّه “لا ينبغي أن يسيّطر اليهودي على المسلم”، وخرجوا بشكل خاصّ ضدّ اليهود في المناصب الكبيرة مثل القضاة أو المسؤولين. بدأت الكراهية بالتسرّب.
الطرد، النهب والاضطهاد
مع تأسيس دولة إسرائيل انجرف العالم العربي في أعمال شغب عنيفة، مجازر ونهب لليهود. شاركت بعض الدول العربية في القتال ضدّ إسرائيل، والتي أصبحت العدوّ الأكبر للقومية العربية. أثارت بعض الحكومات العربية أعمال الشغب والنهب ضدّ اليهود، بل صادرت الحكومة العراقية الممتلكات، كما لو كان الأمر “تعويضًا” عن اللاجئين الفلسطينيين.
عام 1951، وافقت حكومة العراق، بهدوء، على السماح لليهود بالهجرة إلى إسرائيل، وقد هاجر الجميع تقريبًا. بالمقابل، صدر قانون تمّ بموجبه تأميم جميع الممتلكات اليهودية: المنازل، المصانع، السلع، المجوهرات والحسابات المصرفية. سنّ الزعيم المصري، جمال عبد الناصر، قوانين مماثلة بعد حرب السويس. طُرد يهود ليبيا وتمّ تأميم ممتلكاتهم في سنوات الستينات.
لم تؤمّم كلّ من سوريا، تونس والجزائر الممتلكات، ولكن اليهود فرّوامن تلك الدول حين حظيت باستقلالها، وبعد ذلك نهب المسلمون الممتلكات التي خلّفوها وراءهم. هذا ما حدث أيضًا لممتلكات يهود اليمن الذين هاجروا إلى البلاد في عملية البساط السحري. نجح بعض يهود المغرب في الخروج مع أموالهم وممتلكاتهم، وخلّفوا منازلهم وراءهم.
هاجر آخرون دون أن يأخذوا أي من أغراضهم، ولا يحملون إلا الملابس التي على أجسادهم. ترك الناس خلفهم في البلاد العربية الفنادق والمنازل الفاخرة، المتاجر، الأقمشة الثمينة، المجوهرات والكثير من سبائك الذهب، وبدأوا حياتهم من جديد في الفقر المدقع.
العدالة التاريخية
وكما هو معلوم، فقد اعتُبِر اليهود الذين أتوا إلى إسرائيل من البلاد العربية في معظمهم كمن أتى برغبته، بدافع الصهيونية وحبّ إسرائيل، كالكثير من سكّانها في السنوات الأولى. في السنوات الأخيرة فقط حدث تغيير في موقف الحكومة الإسرائيلية والجهات الخارجية تجاه خطاب اللجوء: تعترف قرارات رسميّة للحكومة الإسرائيلية من السنوات 2002 و 2003، وكذلك قرار الكونغرس الأمريكي من عام 2008؛ باليهود الذين نزحوا من الدول العربية كلاجئين.
“في الوقت الذي فرّ فيه مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين قاصدين الدول العربية في ما يعرف بالوطنية الفلسطينية بـ”النكبة”، فرّ مئات الآلاف من اليهود إلى الاتجاه المعاكس تمامًا.”
تستعد إسرائيل في السنوات الأخيرة لتثمين قيمة الممتلكات، التي تقدّر بمليارات الدولارات، والتي تمّ تأميمها من قبل الدول العربيّة. في شباط 2010، وافق الكنيست على قانون للحفاظ على حقوق التعويض للاجئين اليهود القادمين من الدول العربية. يفصّل القانون أنّ هدفه هو “الحفاظ على حقوق التعويض للاجئين اليهود القادمين من الدول العربية وإيران في إطار مفاوضات من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط”. ينصّ القانون على أنّه “في إطار المفاوضات من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط، ستدرج الحكومة قضية التعويض عن الخسائر في ممتلكات اللاجئين اليهود القادمين من الدول العربية وإيران، بما في ذلك الممتلكات التي كان المجتمع اليهودي يملكها في تلك البلدان”.
يعتقد بعض المسؤولين الحكوميين في إسرائيل وفي الولايات المتحدة، بالإضافة إلى خبراء حقوق الإنسان والمؤرّخين أنّ هناك تماثلا بين خطاب لجوء اليهود من الدول العربيّة وبين خطاب اللجوء الفلسطيني، ولذلك ينشأ ارتباط بين الاعتراف الدولي بكلا الروايتين وبين الأمل بكلّ حلّ عادل وشامل للصراع العربي – الإسرائيلي. وغنيّ عن القول، إن القيادة الفلسطينية والدول العربية يرفضون هذا التماثل بشكل تامّ.
زيادة الوعي والحفاظ على التراث
إحدى المشكلات البارزة في قضية لجوء يهود العالم العربي هي عدم وجود الوعي العام حولها.JIMENA، هي منظّمة يهودية – شرقية تمثّل أحرفها الأولى الكلمات “اليهود المولودون في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، وضعت لها هدفًا وهو نشر هذه الرسالة. بدأت المنظمة في العمل في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من أيلول وجاء في تعريفها: “لملأ ثغرة تاريخية في روايات الشرق الأوسط واليهود المتبنّاة، التي تتجاهل بشكلٍ عامّ حضارة وحالة اللاجئين اليهود الـ 850 ألفًا من الدول العربيّة.”
بدأت المنظّمة مؤخرًا في تشغيل موقع إنترنت وصفحة فيس بوك باللغة العربية أيضًا، وتوسيع المعلومات أيضًا لمواطني الدول العربية أنفسهم، الذين يجهلون في الغالب تاريخ طرد اليهود من دولهم. إنّهم يعملون لحماية التراث وتوثيقه، يجمع القادة وثقافة يهود العالم العربي، الأدلّة، المقتنيات والصور من اليهود الذين فرّوا. تم تسجيل بعض الشهادات وتصويرها ويمكن مشاهدتها في موقع الإنترنت التابع للمنظّمة.
“ثمة حاجة إلى الاعتراف بخسائر وحضارة جميع مجموعات اللاجئين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والتعامل معها. نريد أن يتبنى العالَم فهمًا أكثر تنوّعًا لمركزية التراث اليهوديّ في تركيب وتاريخ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.
هذا ما تقوله إحدى نساء المنظّمة لموقع المصدر. ”كان لليهود من الدول العربية والمتحدِّرين منهم حضور مستمرّ في الشرق الأوسط لأكثر من ألفَين وخمسمائة عام، وهم يشكّلون اليوم أكثر من نصف سكّان إسرائيل اليهود. إنّ حضارتهم، خسائرهم، وتجاربهم يجب أن تُدرَك وتُشمَل في النقاش حول التاريخ اليهوديّ وتاريخ الشرق الأوسط”.
تؤمن جيمينا أنّ “اليهود من الدول العربية يمكن أن يشكّلوا نقطة التقاء وجسرًا حضاريًّا بين اليهود الأوروبيين الشرقيين وجيران إسرائيل العرب. نريد أن تُسمَع قصّتنا وتُشمَل أصواتنا”.