الوصول إلى لبّ الإجماع هي مهمة شاقة للغاية. صحيح أن الملاءمة لأذواق الفئات السكانية المختلفة هو الطموح الذي يطمح إليه فنانون ومبدعون كثيرون في مجال الموسيقى أيضًا، ولكن من الواضح أن هذا لا يحدث في معظم الحالات. لذلك فإن حالة عمير بنايون – وهو ملحن ومطرب إسرائيلي – هي حالة مثيرة الاهتمام بشكل خاص: لقد تحوّل إلى نوع من الإجماع بين أوساط عشاق الموسيقى، من كافة التيارات والأساليب، على الرغم بقاء نظرة الجمهور إلى شخصيته محط خلاف، إن لم نقل أنها محط عار.
وُلد بنايون قبل 37 عامًا في مدينة بئر السبع، في قلب الصحراء الجنوبية في إسرائيل. منذ نعومة أظفاره، اهتم بالموسيقى وكان يعزف مع والده وأخيه، وفي سنيّ بلوغه، بدأ يكتب أغانٍ ويوفر المال من العمل في الترميم، لإصدار أول ألبوم له. حين وصل إلى سن 24 سنة، نجح أخيرًا في تحقيق الهدف الذي وضعه نصب عينيه، وأصدر باكورة ألبوماته “أنتِ فقط”. تميّز الألبوم بأسلوب يُدعى في إسرائيل أسلوب “البحر المتوسط”، وقد استوحى عناصر من الموسيقى العربية، التركية والفارسية، تجسدت باستخدام آلات موسيقية مثل العود، وألحان بطيئة ومثيرة للانفعال. حظي الألبوم بنجاح باهر وبيع منه 40 ألف نسخة.
استمعوا إلى الأغنية “عندما تكونين حزينة”، وهي الأغنية الضاربة في ألبوم الباكورة:
في السنة ذاتها أصدر ألبومه الثاني، “نفس المكان، نفس الرياح”، الذي حظي بنجاح قليل في متاجر الموسيقى. لذلك قرر بنايون الدخول إلى الاستديو لوقت طويل، وبعد سنتين من العمل المضني، أنتجت يداه (وحنجرته) ألبومه المعجزة، “تساقط أوراق الشجر”. بفضل جودة الأغاني، نجح هذا الفنان المُبدع بالوصول إلى جماهير جديدة. إن الدمج الرائع بين الإدراك الموسيقي النادر والدقة في كل نغمة ونعمة، وبين اللغة العبرية الثرية والعميقة، أتاح أيضًا لمن لا ينتمي إلى الطوائف الشرقية (أي اليهود الذين عاشوا في الدول العربية والمسلمة قبل قدومهم إلى إسرائيل)، ومن لم يعتد على الاستماع إلى موسيقى “البحر المتوسط” أن يجد الزوايا التي تهمه وتلامسه.
وكان الحب هو الموضوع الأساسي في أغاني بنايون في تلك الفترة. وتُدعى إحدى أغاني الألبوم بهذا الاسم، وأغان كثيرة أخرى تركز على هذه المشاعر، في توق إلى الزوجية والألم على فقدانها. الأغنية الوحيدة في الألبوم التي لم يكتبها المبدع كانت “أنتِ لستِ هنا” التي كتبها بالأصل جف لين باللغة الإنجليزية، وهو عازف منفرد في فرقة E.L.O، ويغنيها بنايون في الألبوم باللغتين العبرية والعربية معًا.
استمعوا إلى أداء بنايون الرائع لأغنية “أنتِ لستِ هنا”بالعبرية وبالعربية:
وقد وصل بنايون إلى ذروة مجده في العام 2004، حيث أصدر ألبومه الرابع “تغلبتِ معي على كل شيء”. وقد تمت عملية دخوله في ساعات بث الذروة، وتحوّلت الأغنية التي تعبّر عن موضوع الألبوم إلى أغنية بنايون الضاربة في كافة الأزمنة وتم إسماعها في كافة محطات الإذاعة دون توقف. على الرغم أن الأغنية، في أول استماع لها، لا تبدو أكثر من أغنية عاطفية وليس فيها أي تميّز، إلى أننا بصدد خطأ فاحش، فهذه أغنية تمجد الموسيقى، التي يقول بنايون أنها أنقذته من غياب النسيان، التي وصل إليها بعد أن أدمن على المخدرات القوية.
استمعوا إلى بنايون يمجد الموسيقى في أكثر أغانيه شعبية:
لقد حذت به محبته الكبيرة للموسيقى إلى اتخاذ خطوة دراماتيكية بشكل خاص، بعد أن نال جائزة هامة جدًا في صناعة الموسيقى الإسرائيلية. لقد صعد إلى منصة الخطباء في الحفل، وارتأى أن ينتقد الإتجار بالموسيقى في إسرائيل، وتخلى بذلك عن الجائزة التي كان سيستلمها وتبرع بها للمحتاجين. بعد شهر من ذلك الوقت، أعلن عن اعتزاله الموسيقى، لنفس الأسباب التي ذكرها في الحفل.
لقد حذا نضال بنايون ضد الصناعة به إلى اتخاذ خطة ذات أسبقية وإقامة شركة مستقلة، يمكنه عن طريقها إنتاج الألبومات وتسويقها. بعد أقل من سنتين، أصدر ألبومًا جديدًا، “كل شيء حتى هنا”، الذي مثل اتجاهًا جديدًا في الكتابة، وركّز على المشاعر الشخصية – مثل البحث عن الذات وخيبة الأمل من اختيارات خاطئة كان قد اختارها – كما يتجسد ذلك في أغانٍ مثل “هارب”، “كل شيء حتى هنا” و “أردت أن أكون”. من الناحية الموسيقية، قام بنايون بتعميق معلوماته مع مرور السنين. بفضل ذلك، تحوّلت إبداعاته إلى أكثر تعقيدًا، ولعبت الآلات الوترية مثل السنطور والتشلو والكمان دورًا هامًا جدًا.
من الموقع الذاتي تحديدًا، نشأت في بنايون الحاجة إلى الاعتراف أن عليه أن يستخدم الموسيقى كوسيلة لتمرير الانتقادات الكبيرة على مواضيع موجودة في قلب الحوار الجماهيري. فعلى سبيل المثال، بعد إصدار ألبومه “واقف على البوابة”، هاجم في مقابلة صحيفة الجمهور العلماني في إسرائيل، حيث ادعى أن هذا الجمهور لا يشارك في ما يحدث خارج تل أبيب؛ وانتقد اليهود الحاريديين (“إنهم يخيفونني”)، وتفوّه ضد أفراد اليسار والعرب في إسرائيل. في أعقاب الضجة التي أحدثتها المقابلة، نشر بنايون رسالة اعتذار تحت عنوان “هكذا حوّلوني إلى عنصري”، حيث ادعى أنه قد تم تحريف أقواله وأنه يحب الإنسان.
في العام 2011، في إطار محاولاته للتعبير عن تقديره الكبير للعرب ولثقافتهم، وبروح “الربيع العربي” الذي أغرق دول المنطقة، أصدر بنايون ألبوم صغير “Zini”، وكل أغانيه بالعربية. وقد اقتبست النصوص عن التوراة (سفر الجامعة) وقام بنايون ذاته ووالده مكسيم بترجمتها إلى العربية. وفي المقابلات التي أجراها في تلك الفترة، تحدث بنايون كثيرًا عن رغبته في مساعدة الثوار السوريين وحتى أنه أرسل إليهم الألبوم المصغّر. وأعلن بجدية تامة “أريد أن تمنح الأغاني “حافزًا” للتظاهر وطلب الديموقراطية”. وقد روى عن علاقاته بالعرب الذي عمل معهم في البناء، وقال أنه ربما سيحظى أن يكون “الفنان الإسرائيلي الأول الذي سيقدم عرضًا في سوريا”.
طرقه المتعرجة تتواصل، والحقيقة؟ لا نعرف أين ستنتهي. بالنسبة لبنايون فإن عرض في نادٍ في وسط دمشق سيشكّل استمرارًا لائقًا لمسيرة مفعمة بتناقضات موسيقار فذ بشكل خاص.
استمعوا إلى بنايون يحاول تقريب القلوب ونشر السلام.