في ظلّ محاولات هيئات في اليمين الإسرائيلي لمنع مراسم مشتركة لذكرى شهداء حروب ومعارك إسرائيل وضحايا الإرهاب لمنظمة تدعى “مقاتلون من أجل السلام” و “منتدى العائلات الثكلى”، ورغم الدعوات إلى منع دخول الفلسطينيين إلى إسرائيل للمشاركة في هذا الحدث، انعقدت أمس في تل أبيب، للسنة العاشرة على التوالي، مراسم إسرائيلية – فلسطينية لإحياء ذكرى الشهداء، والتي تسعى إلى تخليد ضحايا الصراع من كلا الطرفين، وتدعو إلى إيقاف دائرة العنف التي تولّدُ كلّ عام المزيد والمزيد من الضحايا. وقد سُجّل هذا العام حضور قياسيّ في المراسم، واضطرّ آلاف الإسرائيليين الذين حضروا للمشاركة بالمراسم إلى البقاء خارجًا لعدم وجود أماكن كافية، وشاهدوا المراسم على الشاشات.
في مساء يوم ذكرى الشهداء، وهو أحد أهمّ الأيام في التقويم الإسرائيلي، والذي تكتنفه أجواء من القداسة والفجيعة، اجتمع في تل أبيب أبناء العائلات الثكلى، من الإسرائيليين والفلسطينيين الذين فقدوا أغلى ما لديهم، بسبب الصراع المستمرّ، وأرسلوا رسالة واضحة: هناك طريق آخر. يمكن تذكّر وتكريم الذين سقطوا، ولكن دون الدعوة إلى الانتقام، بل إلى التغيير. دون التخطيط للحرب القادمة، وإنما التخطيط للسلام.
عند ساحة مدخل المراسم تم وضع نصب تذكاري: “ضريح لضحايا الصراع المستقبليين”. كتلة من الخرسانة الرمادية وفيها نوافذ صغيرة. من ينظر من خلالها، يرى قبرًا، نُقش عليه شعار منتدى العائلات الثكلى: “نحن لا نريدكم هنا”، بالعبرية، العربية والإنجليزية. وتمنح المجموعة المتنوعة من المرايا حول القبر للمُشاهد شعورا بأنّه ينظر إلى مقبرة ضخمة، مليئة بقبور ضحايا الصراع المستقبليين.
ويحكي هذا المنظر المزعزِع في الواقع قصة هؤلاء المشاركين: لقد فقدنا أحبّاءنا حقا. تعالوا نفعل كل شيء كي لا نفقد أحدا آخر بعد.
ومع ذلك، رغم رسالة المصالحة، وربّما بسببها، يعارض اليمين الإسرائيلي إقامة هذه المراسم، بل هناك من ذهب للتظاهر أمامها محتجّا. معظم الشعب الإسرائيلي مندهش إزاء اختيار مشاركة فلسطينيين في هذا اليوم الإسرائيلي جدّا.
“جاءت هذه المراسم، من بين أسباب أخرى، لتشير إلى حقيقة مهمّة جدّا، والتي – لسبب ما – يتنكّر لها الجميع: وهي أنّ البشر متساوون، ودمهم هو نفس الدم، وألمهم هو نفس الألم”
وفي محادثة مع أفنير هوروفيتس، وهو إسرائيلي يهودي ناشط في منظمة تدعى “مقاتلون من أجل السلام” وعضو منتدى العائلات الثكلى، ومع أحمد جعفري، فلسطيني مسلم ناشط هو أيضًا في المنظمة، حاولنا أن نفهم عميقًا أهمية هذا الحدث بالنسبة لمنظّميه والمشاركين فيه.
لامست قصّة أفنير قلبي فورًا. “ترعرعت في أسرة إسرائيلية عادية، من منتخبي اليسار. ومثل كل إسرائيلي وطني، يحبّ دولته، انضممت إلى الجيش وخدمت في سلاح المخابرات. عندما كنت في التاسعة عشر من عمري، سافر والداي في رحلة منظّمة للإسرائيليين إلى مصر. قرب الإسماعيلية، فتحت سيارة النار صوبهم، وتم إلقاء القنابل اليدوية. قُتل والديّ على الفور، وأصيبت أمّي بجروح طفيفة”. رغم الفقدان الصعب، واصل أفنير حياته الروتينية. في كل يوم ذكرى الشهداء، ذلك اليوم المخصّص للعائلات الثكلى، يتجنّب أفنير الذهاب إلى مراسم ذكرى الشهداء الرسمية. لا يشعر بالانتماء.
“كان صعبًا عليّ أن أستمع إلى النصوص”، كما يقول. “ليس فقط أنّها لم تساعدني، بل على العكس. لقد أثارت غضبي. فضّلت العزلة في معايشة حزني الخاصّ. لم أستطع الارتباط بهذا الحزن العام الذي يربط كلّ البلاد”. اتضح لي فورا ما هي “النصوص” التي تحدّث عنها أفنير. وهي نصوص نموذجية ليوم ذكرى الشهداء، عن أهمية التضحية من أجل الدولة، نصوص مليئة بالتأسّي وتمجيد الضحايا والمقاتلين. ولكن قبل ستّ سنوات حدث تغيير عند أفنير.
“وصلتُ صدفة إلى مراسم “مقاتلون من أجل السلام”، والتي كانت لا تزال صغيرة وغير معروفة. شعرت بإحساس من الراحة. شعرتُ فجأة بأنّني أستطيع الارتباط، وأن حزني هو جزء من حزن أكبر. فجأة أخذت وفاة والديّ دلالة أخرى، إضافية. منحني ذلك أملًا”.
في أعقاب المراسم انضمّ أفنير إلى “مقاتلون من أجل السلام”، ومنذ ذلك الحين وهو ناشط في المنظّمة، يلتقي مع النشطاء الفلسطينيين من منطقة نابلس، وينظّم معهم فعاليات ويخطّط لكيفية تغيير الواقع. يعيدون سوية إعمار المناطق التي تُدمّر في غارات الجيش الإسرائيلي، يجرون الفعاليّات للأسر والأطفال الفلسطينيين، ينظّمون جولات للإسرائيليين في الأراضي المحتلة ولقاءات مع فلسطينيين الذين يحكون لهم كم هو أمر مؤثّر أن تحيا تحت حكم عسكري. الحدث الأكبر لدى المنظّمة هو يوم ذكرى الشهداء المشترك.
أسأل أفنير بخصوص ردود الفعل لدى الشعب الإسرائيلي حول هذه المراسم، وماذا يمكن أن يقال لكل أولئك الذين يعارضون إقامتها.
“أستطيع أن أتفهّم المعارضين. إنّه موضوع دقيق وحسّاس جدّا في المجتمَع الإسرائيلي، وأستطيع أن أتفهّم بأنّهم يتأذّون من مجرّد إقامة المراسم. ومع ذلك، أعتقدُ أن لديّ – كابن لأسرة ثكلى – الحقّ في إقامة هذه المراسم، التي تمنحني الراحة والقوة على مواجهة الفقدان. من يشعر أن المراسم تمس به، يمكنه ببساطة ألا يشارك. وصحيح أن الحديث عن “قدس الأقداس” لدى المجتمع الإسرائيلي، ولكنّه ينتمي لي أيضًا، ويجب أن يكون أكثر اتّساعًا ليقبلني ويقبل أشخاص ذوي آراء أخرى أيضًا. لست مستعدّا لإقصائي في هذا اليوم”.
ومع ذلك، فأنا أصر: أحد أصعب الأمور على العائلات الثكلى في إقامة هذه المراسم هو أن يتم فيها تخليد الأشخاص الذين شاركوا في دائرة العنف، الذين قُتلوا لأنّهم ألقوا الحجارة وحاولوا إيذاء الإسرائيليين، بالإضافة إلى ضحايا بريئين. ألا يوجد مكان في رأيك للقيام بهذا الفصل؟
“شعرتُ فجأة بأنّني أستطيع الارتباط، وأن حزني هو جزء من حزن أكبر. فجأة أخذت وفاة والديّ دلالة أخرى، إضافية. منحني ذلك أملًا”
“نحن لا نخلّد القتلة في هذه المراسم. ليس من الجانب الفلسطيني، مثل الإرهابيين الانتحاريين، ولا من الجانب الإسرائيلي، مثل باروخ غولدشتاين، الذي قتل المصلّين في الحرم الإبراهيمي”، كما يقول. “من يشارك في المراسم هم أشخاص يؤمنون بنبذ العنف. قد يكون في أسرتهم أشخاص يؤمنون بالعنف، أو أن ابنهم قُتل لأنّه ألقى الحجارة. ولكن بسبب ذلك تحديدا فنحن نرحّب بذلك؛ أي بالتغيير الذي قامت به هذه العائلات، عندما فهمت أنّ ذلك العنف ليس هو الطريق الصحيح. هنا يكمن الأمل؛ حيث يفهم الإسرائيليون والفلسطينيون على حدّ سواء بأنّ دائرة العنف تتغذّى على نفسها، ولا تقدّمنا إلى الأمام، وحان الوقت لكسرها”.
تلقيت رسالة مشابهة أيضًا من أحمد جعفري. أحمد أيضًا هو عضو في منتدى “العائلات الثكلى”، بعد أن فقد عمّان بسبب الصراع. قُتل أحدهما بعد أن أضرب عن الطعام في السجون الإسرائيلية وتوفي عندما فُرضت عليه “التغذية القسرية”. وقد مكث هو بنفسه في السجون الإسرائيلية لعدّة سنوات، في السنوات التي سبقت الانتفاضة الأولى، بسبب إلقاء الحجارة.
“تعلّمتُ العبريّة في السجون الإسرائيلية. مكّنني ذلك من التعرّف عميقا على الإسرائيليين، الذين عرفتهم من قبل فقط كجنود على الحواجز يعطونني الأوامر. درست أيضًا تاريخهم وروايتهم بتعمّق”، كما يقول. حتى بعد أن تم إطلاق سراحه من السجن، استمرّ في متابعة ما يجري في إسرائيل لاهتمامه بالمجتمع الإسرائيلي. صادف في إحدى المرات إعلانا يطلب متطوّعا لترجمة نشرة لتنظيم “مقاتلون من أجل السلام”. تطوّع وقام بالترجمة، وذهب بعد ذلك إلى فعالية للمنظّمة.
“ذُهلتُ لاكتشافي أنّ بعض أصدقائي الذين كانوا معي في السجون الإسرائيلية هم فجأة ناشطون في المنظّمة”، كما يتذكّر. ومنذ ذلك الحين فهو ناشط فعّال في المنظّمة.
كيف تتقبّل بيئتك نشاطك هذا؟ هناك معارضة للتطبيع وللعلاقات مع الإسرائيليين
“ما أقوم به ليس تطبيعًا. نشاطي مع الإسرائيليين ليس “حمّص وعناق”. نحن نعمل حول الصراع، وبشكل أساسي نبحث عن طرق لحلّه. عملنا المشترك هو الطريق للتوصّل إلى حلّ للصراع. لا يعارض المقربون مني ما أقوم به، ولكنّهم بالأساس يظنّون أنّه ليست هناك فائدة منه. مثل الكثير من الإسرائيليين، فإن الشعب الفلسطيني متشائم. إنّه يؤمن بحلّ الدولتَين ويريد التوصّل إلى مصالحة، ولكنّه لا يعتقد أنّ ذلك ممكنا. وأنا، بطبيعة الحال، أفكّر بشكل مختلف”.
عندما سألت أحمد ماذا لديه ليقول لأولئك الإسرائيليين الذين يعارضون قيام المراسم، أجاب: “الجهل وعدم الاعتراف بالآخر هما اللذان يؤديان إلى استمرار الصراع. جاءت هذه المراسم، من بين أسباب أخرى، لتشير إلى حقيقة مهمّة جدّا، والتي – لسبب ما – يتنكّر لها الجميع: وهي أنّ البشر متساوون، ودمهم هو نفس الدم، وألمهم هو نفس الألم”.