“الحرب طاحنة. لم أتخيّل في أحلامي الأكثر جموحًا أبدا، أن أصل إلى حالة أضطرّ فيها إلى أن أحمل ابني الصغير على يديّ طالبة مساعدة الأطبّاء في الجانب الإسرائيلي من الحدود لإنقاذ رجله”، قالت لي نرمين (اسم مستعار) هذه الكلمات، وهي أم شابّة ولاجئة سورية، وصلت مع ابنها البالغ من العمر سبع سنوات، لتلقّي العلاج الطبّي في مستشفى “زيف” في مدينة صفد في الشمال، على الحدود الدامية بين سوريا وإسرائيل.
[mappress mapid=”17″]
لم تترك الحرب الضارية في سوريا، والقائمة منذ أكثر من أربع سنوات، الكثير من الخيارات أمام عشرات الآلاف من اللاجئين والنازحين السوريين، الذين يطرقون أبواب دول الجوار ومن بينها الأردن، لبنان وإسرائيل. وفجأة في مسرح الشرق الأوسط العبثي، تُفتتح أبواب وحدود مادّية ومعنوية بين دول عدوّة.
“لعب أحمد (اسم مستعار) خارج منزلنا في مدينة درعا”، التي كانت إحدى المدن السورية الأولى التي تطوّر فيها النضال ضدّ نظام بشار الأسد. “سمعنا صوت قصف فجأة، وبعد ذلك جاء الهدوء الفظيع. فهمتُ أنّ شيئا ما حدث لابني، لذلك خرجتُ من المنزل فرأيته ملطخًا بالدم في الساحة. استدعينا الإسعاف الأولي، وتلقّى ابني علاجا أوليًّا في المستشفى الميداني والمؤقّت في المدينة. كلّما مرّت الأيام، أدركت أنّ ابني لن يعود كما كان. أحدثت الإصابة القاسية من شظايا القذيفة، التواءً في رجله اليُمنى. سافرنا بما تبقّى لدينا من قوة إلى دمشق، وموّلنا من مالنا الخاصّ 17 عمليّة جراحيّة مختلفة كانت قد أجريت في رجله. قرّر الأطبّاء السوريون في دمشق، أن أحمد لن يستطيع المشي مجدّدا على رجله اليُمنى. لقد فقد أحمد الأمل، وتلاشى الفرح والسعادة اللذان كانا على وجهه. فهو طفل، ولا يفهم تماما أو يتقبّل الإصابة. لقد فهم أنّه فقد جزءًا من جسده. استغرق منّي الأمر بضعة أيام حتى أستعيدُ قواي وأقرّر الذهاب مع ابني إلى الحدود بين إسرائيل وسوريا. كنت مضطرّة إلى أن أكافح من أجل حياته، لم يكن بإمكانه أن ينجو من الحرب في سوريا مع قدم مبتورة. وهكذا حملته على يدي وأحضرته إلى المستشفى في صفد”، كما أخبرتني نرمين بألم كبير.
“منقذُ جميع الجرحى السوريين”
أخبرني البروفيسور أليكس ليرنر، الذي أشرف على عملية لدى أحمد، عن رحلته الطويلة للتعافي، “بعد 17 عمليّة جراحية، قرّر الأطبّاء السوريون أنّه لن يمشي، وأنظر إليه اليوم يستطيع ركل الكرة. وصل الطفل إلينا في حالة صعبة وقرّرنا إعادة تأهيل ساقه. بعد عملية واحدة إضافية، فهمنا كيف يجب إعادة تأهيلها وهكذا بواسطة قطع حديدية تم تثبيتها في ساقه نجحنا في تقويمها”. البروفيسور ليرنر، هو خبير ذو شهرة عالمية في علاج الصدمات في العظام ولا سيما إصابات الحرب، وقد اكتسب مؤخرًا أيضًا لقب المنقذ في أوساط الجرحى السوريين. لقد عالج المئات منهم، من بينهم مَن فقد كلّ أمل بأن يستطيع المشي مرة أخرى، ولكن وبفضل علاجه والعمليّات الجراحية المعقّدة التي أجراها عادوا إلى سوريا وهم يمشون على كلتا رجليهم، أو على أطراف صناعية مُنحت لهم بمساعدة الصليب الأحمر.
تبدو الحالة في مستشفى “زيف” وفي بعض المستشفيات الحكومية الكبرى في شمال إسرائيل (مستشفى بوريا في طبريا، مستشفى نهاريا ومستشفى رمبام في حيفا) غريبة في نظر الإسرائيليين والسوريين على حدٍّ سواء. وها هي حرب أهلية واحدة تتسبّب في اضطرابات كبيرة يختلط فيها كلّ شيء: مواطنون سوريون، من الذين قيل لهم خلال السنين من قبل النظام، إنّه من وراء السياج يكمن “الشيطان الأكبر”، يقيمون علاقة مع مرضى إسرائيليين، وفرق طبّية ويتلقّون المساعدات الإنسانية لإنقاذ حياتهم. وكذلك، يلتقي مواطنون إسرائيليون للمرة الأولى في حياتهم بجيرانهم السوريين، من منكوبي الحرب الذين تدمّر عالمهم.
حاولتُ أن أفهم من مدير المستشفى، البروفيسور سلمان زرقا، كيف تجري عملية نقل الجرحى السوريين المعقّدة، من سوريا إلى تلقّي العلاج في المستشفيات في إسرائيل. “لقد بدأ ذلك كعمل إنساني جميل ومؤثّر بقرار من الحكومة الإسرائيلية. في شهر شباط عام 2013، نُقل إلى هنا سبعة جرحى سوريين أصيبوا في المعارك في الحرب الأهلية خلف الحدود. ما بدأ حينذاك، قبل نحو عامين، أصبح اليوم مشهدًا اعتياديًّا. هناك أكثر من 1300 جريح سوري، مقاتلين، رجال، نساء وأطفال تمّ علاجهم في مستشفيات الشمال حيث وصل إلى مستشفى “زيف” حتى الآن 500 جريح. للتوضيح، هناك في المستشفى 300 سرير فقط ونحن قمنا بعلاج 500 جريح”.
“نكافح من أجل كلّ يد ورجل”
امتنع البروفيسور زرقا عن تقديم إجابات قاطعة بخصوص الطريقة التي ينقلُ فيها الجيش الإسرائيلي الجرحى لتلقّي العلاج الطبّي، ولكنّه أوضح بأنّ الجهات العسكرية لا تتدخّل في الإجراءات الطبّية للجرحى وأنّ المهنية الطبّية هي التي تقف في أعلى سلّم الأولويّات. “من المقبول حول العالم، في المناطق المنكوبة التي يتم فيها تقديم المساعدات الإنسانية إجراء عمليّات بتر الأطراف. الأساس المنطقي وراء هذا التفكير هو معالجة أكبر عدد ممكن من الجرحى، والتقليل بشكل كبير من وقت العلاج في المستشفيات وتخفيض التكاليف. ولكن في إسرائيل، قرّرنا أن نكافح من أجل الجرحى الذين معظمهم مصابي الأطراف. تخيّل أنّه كان بإمكاننا تقليص مدّة العلاج بشكل كبير لعشرات الرجال والأطفال السوريين الذين جاؤوا إلينا فقط لو قرّرنا بتر الأعضاء المصابة. تطوّرت في مستشفى “زيف” الخبرة ويكافح الفريق الطبّي ليلا ونهارا من أجل كل جريح وجريح انطلاقًا من العلم أنّ تلك الأطراف التي ننقذها ستساعد الجرحى على البقاء على قيد الحياة في الحرب التي في بلادهم”. وعن عملية إعادة الجرحى السوريين يقول البروفيسور زرقا إنّ السوريين أنفسهم يطلبون العودة إلى قراهم وبلادهم.
التقيت بفارس عيسى، العامل الاجتماعي الذي يرافق الجرحى في مستشفى “زيف”، في خضمّ يوم حافل. كان قد قرّر تماما أن يخرج في جولة زيارة طبّية للجرحى. من جهة، تكشف تعابير وجهه الجادّة والقاسية التعب، ومن جهة أخرى، تكشف العزيمة والإصرار. “رأيت كلّ شيء. فكّر أنه عندما يأتي إلى هنا جريح سوري، رجل، امرأة، طفل أو طفلة، بالنسبة لهم فهم في دولة عدوّ. يكون العبء العاطفي ثقيلا. عندما ينقلهم الجيب العسكري التابع للقوات الطبّية إلى غرفة الطوارئ، أنتظرهم هناك مع الفريق الطبّي المهني. أحرص على أن أوضح لهم عن مكان وجودهم، فهذا يخفّف عنهم عندما يسمعوا بأنّ هناك من يتحدّث بلغتهم. أسألهم كيف يشعرون؟ أين يؤلمهم؟ كم من الوقت مرّ منذ الإصابة وحتى الوصول إلى الحدود؟ ماذا حدث لعائلاتهم؟ وهل لديهم حساسية لأدوية معيّنة؟ ورغم ذلك، فإنّ عالم المصطلحات لدى السوريين، رغم أنّهم عرب مثلي، مختلف. جاء إلينا قبل مدّة جريح بُترتْ ساقه في دمشق واكتشف الطبيب الجرّاح، هنا في “زيف”، أنّ الجرح قد خُيّط. من الناحية الطبّية، لا يجوز تخييط الجرح بعد البتر من أجل منع التلوّث ومنح الأنسجة فرصة الشفاء. سألت الشاب السوري من الذي خاط له هذه الغُرز، فقال لي بالعربية “الدكتور”، في وقت لاحق اتّضح لي أنّ المطهّر في مدينته هو الذي خاط له هذه الغُرز وليس طبيبًا جرّاحًا. هذه الأمور مهمّة”. الأمر الأكثر فظاعة ممّا أخبرني به عيسى بهدوء عندما قال: “اضطُررت أحيانا إلى اختراع أمّهات متبنِّيات. جاء إلى هنا بعض الأطفال دون مرافقة شخص كبير واضطُررت إلى الطلب من أمهات سوريات كنّ يمكثن في المستشفى أن يهتممن برعاية الأطفال الوحيدين”.
وعندما صعدنا باتجاه الطابق العلوي، حيث تُعالَج امرأتان سوريّتان كبيرتان في السنّ، فايزة وخديجة (اسمان مستعاران)، تغيير ما طرأ على تعابير وجه فارس، وارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه. لقد دخل قبل المصوّر الخاص بي وقبلي، وطلب منهما الإذن بالتحدث معهما. “الشعب السوري مُشكِّك بطبيعته، فلتفهم أنّه ليس سهلا عليهما وبالطبع بعد كل الذي اجتزنَهما”، كما أضاف.
توجّهتُ إلى خديجة (49)، وهي ملتزمة الفراش. لقد كافح الأطبّاء على كلتا ساقيها ولم ينجحوا في إنقاذهما. في النهاية اضطرّوا إلى بترهما. حاولت التحدّث إلى هذه المرأة الطيبة والتي حصلت في نفس الوقت على هدية راديو ترانزستور جديد كي تستطيع الاستماع إلى القليل من الموسيقى العربية. لم يكن سهلا عليّ، فمع ذلك فإنّ المرأة التي وقفتُ أمامها، والتي هي قريبة من سنّ أمّي وها هي فاقدة لأطرافها السفلى وتبتسم ابتسامة مؤلمة. “حجّة، هذا عامر وهو صحفيّ جاء ليسألك بضعة أسئلة، حسنًا؟”، ساعدني فارس.
“ما في مشكلة بس ما يصوّر. فارس لا تنس أن تحضر لي زجاجة كولا صغيرة، من فضلك”، قالت خديجة. رويدا رويدا تحرّرت وكشفتْ عن قصّتها المؤلمة: “أنا من درعا. وأمكث هنا منذ عدّة أشهر، وفي هذه الأثناء أنتظر الحصول على الأطراف الاصطناعية التي من المفترض أن تصل قريبًا”.
تحدّثت خديجة بصوت يرتجف عمّ مرّت به وكيف فقدت ساقيها: “خرجتُ من منزلي لالتقاط الأعشاب وأنواع من النباتات البرّية. ودون أن أنتبه دُستُ على لغم. كان الوصف موجزًا وتقشعرّ له الأبدان. لم يكن عندي ما أضيفه.
معظم متلقي العلاج هم من الرجال الشباب
أخبرني فارس أنّ المستشفى قد عالج حتّى الآن نحو 500 سوري، حيث إنّ معظم الجرحى هم من الرجال الشباب وأنّه يفترض بأنّه كان من بينهم مقاتلون وليس فقط مدنيّون أبرياء. “أجرينا أيضًا علاجات لمدنيّين لم يصابوا نتيجة الحرب. كما وأشرفنا على ولادة لعشر نساء وهناك الآن امرأة قد وصلت للحصول على علاج بعد أن اكتشفت بأنّ لديها تلوّث التهابي حادّ في المسالك البوليّة. وهي موجودة هنا منذ خمسة أيام وقد وصلت إلى هنا بتوصية طبيب من درعا، والذي توسّل فعلا كي تذهب إلى إسرائيل لتلقّي العلاج قبل أن يفوت الأوان”.
ولدى الدخول إلى الغرفة رقم 10 في المستشفى، وُضع هناك جندي لحراسة الغرفة لمنع دخول الغرباء. في الغرفة نفسها، كان هناك أربعة رجال جرحى ممن لديهم درجات إصابة خطيرة. أُصيب بعضهم كنتيجة لإلقاء “براميل متفجرة” على بلدات مدنية وهو ما يقوم به سلاح الجوّ السوري في الكثير من الأحيان. “أُصِبتُ بقذيفة أُطلِقتْ صوب منزلي”، كما أخبرنا رائد (اسم مستعار)، وهو شاب في سنّ الثالثة والعشرين، وهو أيضًا لاجئ من درعا. “أخبرونا دائما أنّ إسرائيل هي الشيطان. استطاع الأسد أن يتلاعب بنا ونحن صدّقناه”. صعّبتُ الأمر على الشاب، وحاولت أن أفهم إذا ما كان قد شارك في القتال بجانب الثوار. لم أتمكّن من الحصول على إجابة، ولكن كان واضحا من مظهره أنّه هو والشباب الذين كانوا بقربه ينتمون إلى تيّار إسلامي ما، ربّما جبهة النصرة، ولكن ربّما لن أستطيع معرفة ذلك أبدا.
في آخر الغرفة، ظهر شاب مرهق، كان يبلغ من العمر 17 عامًا. توجّهتُ إليه وحاولت إجراء محادثة معه. اخترقتْ نظرته الميّتة روحي. تحدث الشاب قائلا: “أطلقت دبّابة تابعة للأسد النيران صوب منزلنا، وتلقّيت أنا معظم الضربة، لذلك اضطُرّ الأطبّاء إلى بتر ساقي. أتعالج في مستشفى “زيف” منذ 70 يومًا. يقوم الفريق الطبّي هنا، مرّة كلّ أسبوع، بالاتصال بأسرتي. لا أذكر تماما كيف وصلت إلى إسرائيل، فقد كنت فاقدا للوعي لعدّة أيام”.
وعند اقتراب نهاية الزيارة حُفرتْ في ذاكرتي صورة واحدة. وذلك عندما طلب أحمد اللعب مع ريهام (اسم مستعار) وهي طفلة (12 عامًا) سورية من القنيطرة، جاءت لتلقّي العلاج الطبّي في المستشفى بعد أن لم يجد الأطبّاء في قريتها طريقة لإجراء عملية جراحية لها واستئصال ورم سرطاني من بطنها (استأصل الأطبّاء في “زيف” من بطنها ورمًا سرطانيّا يزنُ كيلوغرامَين وأنقذوا حياتها). لقد أجبر أحمد ريهام، التي استجابت برأفة، على رفعه على الكرسي المتحرّك، وبيده وعاء من الكعك. طلب منها أن تأخذه لزيارة الأطفال الإسرائيليين في القسم. لقد أصرّ على إكرامهم بالكعك الذي حصل عليه للتوّ من أحد الزوّار.