تظهر ورقة موقف نشرها مؤخرا كمال علي حسان، باحث زميل في متفيم، المعهد الإسرائيلي للسياسة الخارجية الإقليمية، امتدادًا جديدًا وواضحًا فيما يختص بازدهار معاهد الأبحاث في العالم العربي في أعقاب “الربيع العربي”.
فعلى حدّ تعبيره، تتحول معاهد الأبحاث الجديدة شيئًا فشيئًا إلى دفيئة في مجال تطوير المحادثات وتبادل المعرفة حول قِيَم ديمقراطية ومدنية. فممثلوها يعملون على إيضاح، تحليل، ومتابعة التغيّرات في الشرق الأوسط، ويبدون اهتمامًا متزايدًا بجوانب مختلفة تتصل بالمجتمع والسياسة في إسرائيل.
ويشارك ممثلو هذه المعاهد في مناسبات ومؤتمرات هامة في العالم وفي بلدان الشرق الأوسط. ويدلّ هذا الواقع على التغيّر الدراماتيكي في نظرة الدول العربية إلى نفسها وإلى الآخر.
بدأت معاهد الأبحاث العربية تنمو في ظل أنظمة تسلطية، وخدمت كأداة بين يدّي السلطات لمنحها الشرعية. عام 2011، شمل التصنيف العالمي السنوي لمعاهد الأبحاث 6545 معهد بحث في العالم. 323 منها (5%) موجودة في دول الشرق الأوسط. 113 من معاهد البحث في الشرق الأوسط موجودة في دول غير عربية – إسرائيل، إيران، وتركيا. أما المعاهد المائتان والعشرة الباقية فموجودة في العالم العربي، ومعظمها موجود في خمس دول: 34 معهدًا في مصر، 29 معهدًا في العراق، 28 معهدًا في فلسطين، 18 معهدًا في تونس، و16 معهدًا في الأردن. ويوضح حسان أنّ هذه المعطيات تشير إلى “غياب الدعم من جانب الحُكّام، والقمع المتواصل للمثقفين ومنع عمليات الدراسة والبحث في الشؤون الداخلية، ما أدّى، بين أمور أخرى، إلى إخفاقات في التنبؤ بأحداث الربيع العربي نهاية سنة 2010”.
رغم ذلك، تزداد حاجة المنظمات، المعاهد، والمثقفين العرب إلى الشراكة في تعزيز إجراءات “الدمقرطة”، البحث، والمعرفة بين مجتمعات الشرق الأوسط. ويدرك مثقفون عرب أنّ هذا الواقع يمكن أن يسهم في قابلية التنقل الاجتماعية وفي تطوير مجتمعات أكثر ديمقراطية في نفس الدول التي تشهد نمو مجتمع مدني ومعاهد أبحاث.
ويذكر حسان بعض الأمثلة على معاهد أبحاث عربية شهيرة، مثل المبادرة المشتركة للأمم المتحدة مع دولة الكويت لإقامة المعهد العربي للتخطيط (API) عام 1966، والتي دفعت دولًا في المنطقة إلى المبادرة لإنشاء معاهد أبحاث وفقًا للنموذج الغربي، ما تجلى في الأهداف، النشاطات، والتوجهات العلمية للتعامل مع شؤون داخلية، ولاحقًا مع قضايا استراتيجية وإقليمية أيضًا. جراء هذه المبادرة، أنشئ عام 1980 المعهد العربي لإنشاء المُدن (AUDI) في السعودية. ويخدم المعهد أكثر من أربعمائة مدينة عربية في اثنتَين وعشرين دولة في الشرق الأوسط.
وعدا الشؤون الداخلية، أو نشر الأفكار والأيديولوجيات العربية المشتركة، عُنيت معاهد الأبحاث كذلك بقضية إسرائيل والحاجة إلى فهم المجتمع الإسرائيلي المجاور. عام 2012، وفقًا لحسان، أعلن مركز دراسات الشرق الأوسط – الأردن، الذي أقيم في المملكة الأردنية عام 1991، عن نشر الترجمة العربية الأولى للتلمود البابلي، في إطار هدفه الذي يقضي بالتعرّف إلى الرواية التاريخية والتراث اليهوديَين. وكان مشروع الترجمة، الذي وُصف كأحد أهم المشاريع في القرن الحادي والعشرين، نتاج عمل دؤوب لعشرات الباحثين من شتى الاختصاصات لنحو خمس سنوات، وعُدّ اختراقًا كبيرًا في العالم العربي من حيث معرفة الآخر في المنطقة.
يُذكَر أنّ عدد المعاهد ازداد بشكل كبير بعد الثورات في العالم العربي مطلع 2011. بالمقابل، شرعت معاهد أبحاث من فترة ما قبل الثورات في عمليات تغيير جذرية، سواءٌ في التنظيم، أو في ماهية وجودة الدراسات. وأحد أهم معاهد الأبحاث في العالم العربي هو مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في مصر. أقيم المركز عام 1968، وركّز على الصراع العربي الإسرائيلي. بدءًا من عام 1972، توسّع نشاطه ليشمل دراسة قضايا دولية مع التشديد على قضايا العالم العربي. ونشر المركز أكثر من 150 كتابًا، وهو يضمّ طاقمًا من نحو 35 باحثًا فقط. وصُنّف المركز بين أفضل خمسين معهد أبحاث في العالَم. منذ الثورة، يختبر المركز تغييرات جذرية وإعادة تنظيم. وبدأ المركز في آذار 2012 عملية تنسيق وإعادة بلورة، عبر ضمّ عاملين جدد من بين الشبان.
كما أدى تطور معاهد الأبحاث إلى إقامة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. عام 2011، أُنشئ المركز برئاسة د. عزمي بشارة، الذي يدير مكاتب المركز من قطر في الخليج العربي. ويضمّ طاقم المركز 51 باحثًا ومترجمًا، إضافةً إلى محللين سياسيين وكُتّاب أوراق مواقف ومقالات ثابتة تُنشر في الموقع وتُعرَض في المؤتمرات. ويشكّل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني أحد المواضيع المركزية لأبحاث المركز، وبين الذين يكتبون عنه باحثون ومثقفون فلسطينيون من إسرائيل.
إنّ حجم الدراسات في معاهد الأبحاث العربية وجودتها آخذة في الازدياد بفعل القضايا المتعددة المطروحة على بساط البحث جرّاء أمواج الاحتجاجات. ويدّعي حسان في ورقة الموقف التي كتبها أنه “يرى في هذه المعاهد رغبة ومساعي عديدة لإعادة تعريف أهدافها وعملها، ودمج قوى شابة ومختصة جديدة، تشكّل قوة هائلة في العالم العربي في يومنا. كذلك، أضحى الاستعداد للتعاون مع باحثين إسرائيليين جزءًا من الحديث في العالم العربي. ففي مؤتمر أقيم في المغرب برعاية جامعة سيراكيوز من نيويورك، التقيتُ بأكثر من عشرين باحثًا عربيًّا، اقترح بعضهم أو حتى دَعَمَ إجراء دراسات مشتركة مع معاهد أبحاث ومثقفين إسرائيليين”.