إن مصداقية التقرير الذي تم نشره بتمويل بدعوة من القناة التلفزيونية “الجزيرة” في الحقيقة تعتريها الشكوك، غير أنه يبدو أن مرض عرفات المفاجئ وموته السريع لم يكونا طبيعيين. ماذا حدث لياسر عرفات، إذا كان الأمر كذلك؟ وهل يجري الحديث عن داء غامض، أم أن أحدًا ما آذاه عمدًا؟
وفق تقرير طاقم المختصين الذي تم نشره يوم أمس على شبكة “الجزيرة”، وُجدت في رفات عرفات – التي تم إخراجها من القبر في رام الله قبل عام، نسبة بولونيوم أعلى بضرب 18 من الطبيعي. في التقرير، الذي طوله 108 صفحات، ادعى المختصون أنهم متأكدون بنسبة 83% بأن رئيس السلطة تم تسميمه. إن أرملة عرفات، سهى، قد تطرقت إلى استنتاجات التقرير من باريس، حيث تقيم في السنوات الأخيرة. “نحن نكشف النقاب عن جريمة حقيقية، اغتيال سياسي”، قالت. مع ذلك، فهي لم توجه إصبع الاتهام نحو أي جهة أو دولة واعترفت أن لزوجها المتوفى كان الكثير من الأعداء.
على خلاف ذلك، يدعي مختصون في الأشعة أنه يتم التحدث عن تقرير مزيّف، الذي يشكل جزءًا من نزاعات الوراثة التي تجريها سهى عرفات ضد من ورثوا زوجها المتوفى، وأنه بعد مرور وقت طويل كهذا، لا يمكن إيجاد بقايا أي مادة.
يدعون في إسرائيل بشدة أنه لم تكن للحكومة الإسرائيلية آنذاك أي صلة بموت عرفات وأنه يتم التحدث عن نزاعات داخلية داخل السلطة الفلسطينية.
كذلك الفلسطينيون ممتنعون، على غير عادتهم، عن الاتهامات الفورية لإسرائيل، ما يشير إلى أن الغموض لا يزال يفوق ما هو معروف في هذه القضية الحساسة، التي غيّرت في الواقع شكل السلطة الفلسطينية: هل كانت ستسقط غزة بيد حماس لو أن عرفات لا يزال حيًا؟ هل كان العنف تجاه إسرائيل سيستمر؟ أم أن عرفات كان من المحتمل أن يستغل منصبه من أجل التوصل إلى حل؟ رغم ذلك، التقديرات هي أنه كلما اقتربت ضغوطات الاتهام أكثر من قيادة السلطة، فإنها ستوجهها تلقائيًا نحو إسرائيل.
كما نتذكر، قبيل انتهاء شهر تشرين الأول من عام 2004 تراجعت حالة عرفات الصحية كثيرًا. بتاريخ 29 تشرين الأول من عام 2004، تم السماح له بالسفر إلى باريس لتلقي العلاج الطبي، ومنذ ذلك الحين طغى غموض على حالته الصحية. لقد سيطرت زوجنه سهى، التي أقامت طيلة سنوات الانتفاضة في باريس، على تدفق المعلومات من المستشفى (بمساعدة القانون الفرنسي الذي يمنح التحكم بالمعلومات المنشورة للشعب لأبناء العائلة المقربة)، وانتشرت وسط الجمهور الفلسطيني والعالمي إشاعات فحسب. لقد حاول المتحدثون الفلسطينيون خلق انطباع كأن حالته ثابتة وليست غير مرتجعة.
انتشرت وسط الفلسطينيين خيبة أمل بسبب عدم التأكد فيما يتعلق بوضع عرفات الصحي، التي تضخمت في أعقاب هبة تلفزيونية علنية لسهى عرفات التي اتهمت كبار المسؤولين في السلطة بمحاولة “دفن زوجها وهو لا يزال حيًا”. تم تلقي هذه الهبَة بغضب من قبل الجمهور الفلسطيني، الذي كانت لدى سهى فيه شعبية منخفضة جدًا. هنالك من قدر أن مصدرها كان بشك سهى أن تقسيم الميراث بعد موت عرفات لن يتم وفق ما يرضيها (بموجب أحد التقارير، بعد موت عرفات وقّعت سهى اتفاقية مع السلطة الفلسطينية تحصل بموجبها على مخصصات تبلغ 22 مليون دولار سنويًا).
بعد أكثر من عشرة أيام مكوث في المستشفى، كان قد أصبح واضحًا للجميع أن موت عرفات قد اقترب. لقد تم البدء بالتحضيرات لجنازته قبل أن تم إعلان البلاغ الرسمي عن وفاته بتاريخ 11 من تشرين الثاني 2004 من عام 2004 في الصباح الباكر. في اليوم التالي تم إجراء مراسيم دفن لعرفات بمشاركة الكثيرين من قادة العالم في القاهرة وبعدها تم دفنه في رام الله .
يعارض الطبيب الروسي الذي قام بتشريح الجثة بعد الوفاة، ادعاء الجزيرة بأن عرفات توفي إثر التسمم بالبلوتونيوم. “لا يمكن أن يكون سبب موت عرفات هو البولونيوم”، قال رئيس وكالة الطب البيولوجي في روسيا فلاديمير أويفا.
إذا لم يكن السبب التسمم، من الممكن أن العامل الذي أدى إلى وفاة عرفات كان التلوث – لأن ظروف الحياة في المقاطعة، حيث كان محاصرًا، كانت صعبة للغاية. إمكانية أخرى، تم طرحها من قبل عدة جهات، كانت فيروس الإيدز (HIV). يقول الصحفي الإسرائيلي، شلومي إلدار، الذي قام بزيارة عرفات قبل وقت قليل من وفاته، أن التفسير للسرية التي تغطي على موت الرئيس تتعلق بالمرض الذي توفي بسببه. وهو الإيدز. “… لقد كان مريضًا، متعبًا ومهلوسًا. لقد بدا نحيفًا، وافترضت في البداية أن أيام الحصار في رام الله ظهرت على وجهه وتركت علاماتها على جسده النحيل. لقد ارتدى ملابسه الرمادية وكان متوجًا من أخمص قدميه حتى رأسه بالميداليات وعلامات النصر، كان قائد إمبراطورية عسكرية كبرى. إلى جانبه كان السرير الحديدي الذي نام فيه. كان مظهره يثير الشفقة. لقد استمر في التحدث بانفعال عن “اتفاقية الشجعان” التي عقدها مع إسحاق رابين في أوسلو، حيث كانت زخرفة الدمار حوله ورائحة الرماد في الجو بقايا حرب وليس سلام” كتب إلدار، في موقع المونيتور.
“بعد أربع ساعات في مكتبه، كان لدي انطباع أن رئيس السلطة قد أضاع الشعور بالوقت والواقع… لقد دعانا، أنا وطاقم التصوير، على وجبة عشاء خفيفة: أرغفة، جبنة قليلة الدسم وللتحلية تم تقديم البقلاوة التي أحضرها دحلان. همس في أذننا أحد ما أن الرئيس يأكل طعامًا خفيفًا لأن وضعه الصحي لا يمكّنه أن يأكل أكثر من ذلك. إنه لا يهضم ما يقوم بأكله، شرح لنا”.
يضيف إلدار: “بعد شهر ونصف من ذلك الحين، [بتاريخ 29 تشرين الأول من عام 2004]، تم نقله جوًا إلى فرنسا إلى المستشفى العسكري برسي، الذي توفي فيه، ومنذ ذلك الحين تم حفظ سبب وفاته سرًا. تم تصنيف الملف الطبي الخاص بعرفات كسري للغاية. تم السماح لوريثه، أبي مازن، زوجته سهى، وقلائل آخرين في السلطة الفلسطينية فقط رؤية الملف الطبي والتزموا بحفظ محتواه في أنفسهم. لكن الشائعات قد انتشرت.
هنالك مرض واحد فقط في العالم المتحضر الذي لا يزال المجتمع، مهما كان حضاريًا، يضع وصمة عار على جبين المصابين به: ألا وهو مرض الإيدز. لقد روى آنذاك الدكتور أشرف الكردي، طبيب عرفات الشخصي الذي تم إبعاده عن علاج الرئيس في الأسابيع الأخيرة من حياته، لمؤلفي الكتاب “الحرب السابعة”، آفي يسسخروف وعاموس هرئيل، أنه يعلم أن الأطباء في باريس قد وجدوا فيروسات الإيدز في دم عرفات. غير أن الطبيب الشخصي شعر بأنه يجب عليه حماية القائد الذي توفي “من مرض غير مقبول”، وشرح لهم أن فيروس الإيدز قد تم إدخاله إلى دم عرفات بهدف إخفاء علامات التسميم – الذي كان السبب الحقيقي لموت ياسر عرفات.
يدعي البروفيسور غيل لوغاسي، رئيس اتحاد أخصائيي أمراض الدم في إسرائيل، أن جميع المؤشرات لمرض عرفات تدل على أنه أصيب بفيروس عجز المناعة البشري (HIV). سُمعت من كبار السلطة في محادثات ليست معدّة للنشر ولا للنسب تقديرات مشابهة”.
“كان لدى زوجي أعداء كثر”، قالت سهى عرفات، وقد كانت على حق. ما كان لدى عرفات أيضًا، ويضيف بالتأكيد إلى الغموض، هو المال الوفير: تم تقدير ثروته الشخصية من قبل جهات مختلفة بمليارات الدولارات. لكن من الصعب جدا حسابها، لكونها موجودة في حسابات سرية. وفق صندوق النقد الدولي، لقد حول عرفات إلى حساباته من أموال السلطة الفلسطينية بين السنوات 1995 – 2000، 897.6 مليون دولار. مع ذلك، تم استخدام قسم كبير من هذه الأموال كما يبدو “كصندوق ثان” للسلطة الفلسطينية من أجل تخطي رقابة الدول المتبرعة لها على الأموال.
يبدو، إذا كان الأمر كذلك، أن موجة النشر الأخيرة الخاصة بالجزيرة، كمنشورات أخرى لذوي الاهتمام، لن تبدد الغيمة التي تغطي موت من كان القائد التاريخي للشعب الفلسطيني.