في كل موجة عنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين تغرق مواقع التواصل الاجتماعي بالكراهية والدعوات للقتل، الطرد والانتقام. وكوني يهوديا إسرائيليا أتحدث العربية، فإنّ الطريق إلى الحوار ستكون أصعب بضعفين في هذه الأوقات. كل تغريدة في تويتر، وكل جملة في فيس بوك تستجيب بزخات من الشتائم وتمنّي الموت، الموت للصهاينة، الموت لليهود، والتوعّد بطرد اليهود من فلسطين، حتى آخر واحد منّا.
ولكن في كل مرة أفتح فيها حسابي على الفيس بوك، ليست الشتائم فقط هي ما ينتظر في الرسائل الواردة، وإنما أيضا الكثير من الفضول، لدى الفلسطينيين الذين يبحثون عن الحوار، ويرغبون بسماع صوت الأشخاص الذين اعتادوا على كرههم. يرغبون بالاستماع إلى ما يعتقده الإسرائيليون حول الفلسطينيين وما هو الحلّ الممكن، حيث إنّه لا أحد – سوى المهوسين وغير المنطقيين – يعتقد أنّ إسرائيل ستزول من الوجود.
ينقل الكثيرون مرارا وتكرارا الحديث الذي يقول: “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر :يا مسلم، يا عبدالله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله”. أولئك الذين يأملون تحقق هذا الكلام هم معادون للسامية لا أكثر ولا أقل، حيث إنهم يتمنون ببساطة القضاء على اليهود – دون أية علاقة بالقضية الفلسطينية.
ويوضح لي آخرون، وهم قلّة، أنّ هناك فرق بين الصهاينة واليهود. “نحن نعارض الصهاينة وليس اليهود”. أولئك هم من يثيرون اهتمامي أكثر، ولكن ماذا يقصدون؟
أدرك هرتسل – في أوروبا التي احتضنت اليهود في يد ورفضتهم في اليد الأخرى – أنّ الحل الوحيد يكمن في رؤية اليهودية كشعب وقومية، وليس كمجرّد طائفة دينية
كيف تطوّرت الصهيونية من داخل اليهودية؟ يعلم الكثيرون بالتأكيد أنّ تيودور هرتسل، الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر، هو أبو الحركة الصهيونية. ولكن يعلم القليل أنّ هرتسل، رغم مظهره اليهودي الواضح، لم يكن يهوديا متديّنا أبدا. عاش هرتسل في ذروة فترة التحرّر، والتي أصبحت حقوق الإنسان فيها والسعي إلى المساواة ذات قيمة مركزية في المجتمع الأوروبي، وآمن بأنّ المساواة في الحقوق هي الحلّ لمشكلة اليهود.
ولكن القرن التاسع عشر الذي عاش فيه هرتسل كان قرنا نمت فيه الأيديولوجية القومية. لقد تخلّت الشعوب الأوروبية عن الإمبراطورية العظيمة التي هيمنت على القارة على مدى مئات السنين، وسعت إلى إعادة صياغة خارطة الحدود بحسب طموحاتها القومية. وفي خضمّ هذه اليقظة القومية، صعدت معاداة السامية في العديد من البلدان وازدهرت. شعر الكثير من اليهود أنّهم لا يجدون مكانهم.
لقد صاغت البيئة التي عاش فيها هرتسل رؤيته. من جهة، كان يتوق لأن يكون أوروبيّا وشعر بالانتماء إلى الثقافية الكلاسيكية. ومن جهة أخرى، فقد صُدم من معاداة السامية الأوروبية التي سعت إلى طرد اليهود من أوروبا. أدّت معاداة السامية ضد اليهود بالكثيرين إلى الانغلاق داخل مجتمعاتهم، والتنكّر للعالم الخارجي، وأدت بالكثيرين غيرهم إلى التخلي عن يهوديّتهم ذات آلاف السنين.
وانطلاقا من هذه الضائقة، أدرك هرتسل – في أوروبا التي احتضنت اليهود في يد ورفضتهم في اليد الأخرى – أنّ الحل الوحيد يكمن في رؤية اليهودية كشعب وقومية، وليس كمجرّد طائفة دينية. كما وأدرك أنّ اليهود سيكونون زرعًا غريبا في أوروبا، بغضّ النظر عن الدرجة التي سيحاولون فيها الاندماج. وبناء على ذلك، يتطلّب وجود وطن قومي لليهود.
إنّ رؤية هرتسل هذه، هي أساس الفكرة الصهيونية. الإدراك الذي تبلور هو أنّ الشعب اليهودي هو شعب ككل الشعوب. ويستحقّ هذا الشعب، المطارد والمهزوم والمعزول على مدى آلاف السنين في كل مكان وصل إليه في العالم تقريبًا، وطنا خاصا به. وليس هناك مكان أفضل من البلاد التي يتوق إليها اليهود على جميع الأجيال، وهي أرض إسرائيل، التي تُسمّى أيضًا صهيون.
هذه هي النقطة الأساسية في الصهيونية، والمفهوم الأساسي لها. لم يلتفت هرتسل إلى السكان العرب الفلسطينيين. اعتبر مؤسسو الصهيونية إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي هدفًا أعلى. كان هناك من اعتقد من بينهم أنّ السكان العرب لن يشكّلوا عقبة. وكان من حاول التحاور مع قياداتهم، مثل حاييم وايزمان الذي وقّع باسم الحركة الصهيونية على اتفاق مع الأمير فيصل، نجل الشريف حسين بن علي وشقيقه الملك عبد الله، مؤسس المملكة الهاشمية.
ولكن كان هناك زعماء مثل زئيف جابوتنسكي ممّن أدركوا أنّ العرب لن يتخلّوا عن طموحهم بطرد اليهود، حتى يدركوا أنّ الوجود اليهودي في البلاد هو حقيقة قائمة لا يمكن تغييرها.
وإذا كان الأمر كذلك، فما هو قصد الذين يقولون إنهم لا يكرهون اليهود، وإنما الصهاينة فقط؟ لقد اعترف جميع زعماء إسرائيل في الأجيال الأخيرة بالطموح القومي للشعب الفلسطيني. ويوافق رئيس الحكومة الحالية بنيامين نتنياهو على إقامة دولة فلسطينية، إذا كانت الأخيرة ستعيش بجانب دولة إسرائيل وتعترف بها باعتبارها وطنا شرعيًّا للشعب اليهودي. من يصرّح أنّه يكره الصهيونية، فإنّه يسلب الحقّ الشرعي للشعب اليهودي بأن تكون هناك دولة خاصة به ويرسله مجددا إلى التشتّت بين جمع الشعوب، ليختفي بين صفحات كتب التاريخ.