مرت ثلاثة أشهر منذ وقوع الأحداث المأساوية للطرد من سنجار، الذي أدى إلى قتل آلاف من أبناء الطائفة اليزيدية، إلى خطف آلاف آخرين وإجلاء أغلب أبناء الطائفة من بيوتهم ومناطق عيشهم. لقد تحولت أنظار الإعلام العالميّ في الوقت الراهن إلى الاهتمام بالقضايا الأكثر “اشتعالا”، ونُسي اليزيديون في غمرة الأخبار المتواردة من جبهة الجهود العسكرية ضد قوات الدولة الإسلامية في المدينة الكرديّة كوباني شمال سوريا، التفجيرات الكبيرة في شبه جزيرة سيناء والإعلان عن حالة الطوارئ والانتخابات المثيرة في تونس.
بقي وضع اليزيديين سيئا كما كان. إذا كانت قد قُدّمت لهم مساعدة دولية ما بعد الحصار الذي علقوا فيه على جبل سنجار وإخلائهم المأسوي إلى مخيّمات اللاجئين في كردستان العراقية، فالآن منذ أن تبدد الاهتمام الإعلامي بهم واعتبروا عالميا أنهم كمن وصل إلى مكان آمن في وسط إخوانهم الأكراد، توقفت هذه المساعدة تماما. هكذا بقي اليزيديون، الذين كانوا يحسون بداية بالعزلة، منسيين متروكين ومشاكلهم. لكن مع ضعفهم هذا، ينشغل نشطاء ومفكرون يزيديون في هذه الأيام بعدة قضايا رئيسية، محاولين حشد العالم مجددا لحلها.
القضية الأولى هي استمرار القتال في جبل سنجار. قبل أسبوع جددت قوات داعش إطلاق النار على الجبل وفتحت نار المدفعية الثقيلة على معاقل “قوات الدفاع السنجارية”، وهي مليشيات يزيدية يصل عددها إلى 5000 آلاف مقاتل بقوا في جبل سنجار، والتي تعمل على حماية الجبل والبلدات اليزيدية المحيطة به. وجهت نيران داعش بالأساس إلى المزار (القبر المقدس) للشيخ شرف الدين، وهو قديس يزيدي في الجزء الشرقي من إقليم سنجار. لقد أدت هجمات داعش الكثيفة إلى ضرب حصار جديد على القوات الموجودة في الجبل وسكان عدة قرى يزيدية أخرى، التي نجحت حتى الآن في الإفلات من قبضة داعش. تشير دلائل كثيرة إلى أنه أيضا خلال المعارك الدائرة على الجبل مرت طائرات التحالف في سماء المنطقة وامتنعت عن الهجوم، ما عدا القيام بهجوم واحد مركّز على قوات داعش في المدينة اليزيدية (الخالية) سنوني، البعيدة عن مركز المعركة.
القضية الثانية، المتعلقة بالذات بالنازحين اليزيديين الماكثين في كردستان العراقية، هي انهيار مخيّمات اللاجئين. انهارت أغلب الخيام في مخيّم اللاجئين الأكبر في المنطقة، خانك، قرب مدينة دهوك، فوق رؤوس ساكنيها خلال عاصفة المطر الشديدة التي ضربت المنطقة يوم الخميس قبل نحو أسبوعَين. إن الكثير من اللاجئين، من بينهم أطفال، مسنون، مرضى ومعاقون معرضون الآن للجرف، الفيضانات الوحلية، والحياة في ظروف صحية وأمنية لا تُطاق، تحت رحمة حالة الطقس السيئة في الجبال العالية لكردستان بلا مُعين. لقد أدى الإهمال الذي يمر به النازحون في المخيّمات الآيلة للسقوط إلى موت عدة نازحين بسبب مضاعفات بعض الأمراض، دهس سيارات الإنقاذ للأطفال واشتعال الخيم التي اختلت فيها أنظمة التدفئة. أدى كل ذلك إلى تعزيز الشعور بالتخلي والخيانة، والذي تحول إلى شعور شائع في دوائر آخذة في الاتساع بين اليزيديين منذ الأحداث أول آب.
الانزواء في الزاوية، حتى النسيان التام، لمأساة المخطوفين اليزيديين، تُعمّق أكثر فأكثر الإحساس بالنبذ. في الأسابيع الأولى بعد الإخلاء من سنجار، والوصول لكردستان العراقية، وثق نشطاء يزيديون أكثر من 7000 يزيدي مفقود، والذين مات قسم منهم خلال الأسبوعين القاسيين في جبل سنجار، وقُتل آخرون خلال المعارك مع داعش ولم يعرف مكان موتهم أو أين قبورهم. حوالي 4000 ممن ضمتهم القائمة، وخاصة النساء ومنهم فتيات صغيرات لم تتجاوزن عمر عشر سنوات، قد خطفتهم داعش. لقد بيعت المخطوفات في الأشهر الأخيرة لمقاتلي التنظيم كجاريات للجنس في أسواق العبيد في المدن التي تسيطر عليها داعش في العراق وسوريا. ليس الأمر تقديرا ولا تخمينا، حيث يفتخر تنظيم “الدولة الإسلامية” بهذا العمل في مقال رسمي قام بنشره.
تتواجد أغلب البنات المخطوفات في المدارس وفي المخازن في مدن الموصل وتلعفر، وفي حالات كثيرة تعرف عائلاتهم أماكن وجودهم الدقيق. يتصل عدد من المخطوفات سرا بعائلاتهن، بواسطة هواتف نقالة نجحن في تهريبها، ويطلبن منهم أن ينقذوهن أو على الأقل أن ينسقوا هجوما لقوات التحالف على المواقع، بحيث تتوقف معاناتهن من تنكيل مقاتلي داعش الواقعات بين أيديهم. يشمل التنكيل بالنساء المخطوفات، حسب شهادات نساء هربن من الأسر، عمليات اغتصاب كثيرة (وأحيانا مرات كثيرة في اليوم)، عنفا جسديا وكلاميا قاسيا، وظروف احتجار غير إنسانية. إن التجاهل التام من العالم للمخطوفات وعدم الاهتمام الواضح للتحالف في مهاجمة سجون الأسر لداعش، يفهمه اليزيديون على أنه إهانة جديدة لهم ولبناتهم، وتذكير بضعف القوى السياسية، لا مبالاتها وانعدام حيلتها، والتي أظهرت نفسها من قبل كداعمة اليزيديين.
أدى استمرار معاناة اليزيديين في مخيّمات اللاجئين وسنجار وعدم الاهتمام الإعلامي والسياسي بالقضية، إلى تعميق مشاعر عدم الحيلة، التهميش والخيانة في أوساط الطائفة اليزيدية. تتسارع هذه العمليات بسبب تغيّب القيادة السياسية والدينية للطائفة اليزيدية بعد أحداث سنجار. الأمر ظاهر جدا في المقابلة المرتبكة والمتعثرة التي أجراها الأمير اليزيدي تحسين بك لقناة “العربية”، وفي هذه المقابلة تنكر، وسط استياء كل الجبهات العاملة في أوساط اليزيديين، سواء للهوية الكردية لليزيديين، أو من علاقة مختاري الطائفة اليزيدية في الحلبة السياسية العراقية والكردية، أو سواء من العلاقات التي يحاول اليزيديون إنشاءها هذه الأيام مع إسرائيل.
يرجى أن يؤدي استمرار المعاناة اليزيدية على عدة جبهات والفراغ القيادي إلى إحداث التغيير المرتقب بشدة في المجتمَع اليزيدي، والذي يمكن رؤية بوادره منذ اليوم. يسود صفوف العامة اليزيدية اتفاق يتعدى الحدود والانتماء السياسي حول الحاجة إلى تشكيل قيادة عامة جديدة مستقلة. يُسمع هذا الطلب بالذات من جيل الشباب اليزيدي، في العراق، الذي يطالب بالانتفاض من قيود القيادة الجماهيرية القديمة وخاصة القيادة الدينية للأمير “والمجلس اليزيدي الروحي الأعلى”. ربما تبزغ من بين صفوف جيل الشباب قيادة يمكنها أن توصل اليزيديين لمستقبل أفضل في أي مكان يختارونه.
نشر المقال للمرة الأولى في موقع Can Think