ركّزنا في الأسابيع الماضية على مطربين كبار من المنطقة وعلى تأثيرهم الكبير على الموسيقيين في إسرائيل. بعد أن أعطينا الكثير من الاحترام لأم كلثوم، فريد الأطرش وفيروز؛ والذين لا تزال أعمالهم تُسمع إلى اليوم، بعد عشرات السنين من عزفها وغنائها لأول مرة؛ رأينا من المناسب تسليط الضوء إلى الداخل، والحديث عمّن اعتبر “ملك الغناء المتوسّطي”، وأحد رجال الثقافة الأكثر روعة مما عرفته إسرائيل، زوهر أرجوف.
رغم أنّ مسيرته استمرت لعقد من الزمان فقط وانتهت قبل ما يزيد عن 27 عامًا، يمكن كتابة كتب كاملة عن موهبته الموسيقيّة وصوته المثير، لكونه رائد يخطو نحو الشرقيين، وبطبيعة الحال، أيضًا عن ولعه بالمخدّرات، والذي أدّى في النهاية إلى وفاته، على الأقل وفق الإعلان الرسمي. قصّته رائعة وفريده من نوعها، الصوت القادم من حنجرته قوي للغاية، ونهايته المأساوية ستصل إلى قلوب أكثر الناس لا مبالاة.
نبدأ مع أغنية حبّ وشوق صادقة بشكل خاصّ، “إليانور”، مع لحن يوناني راقص:
كان أرجوف، المولود عام 1955، ابنًا لمهاجرَين من اليمن. برز منذ صباه بفضل صوته، وحتى حين ترك المدرسة وعمل كجصّاص، اعتقد بأنّه سيعمل في الموسيقى. في سنّ 22 سجّل أغانيه الأولى، ولكن بالمقابل دخل إلى السجن أيضًا، بعد أن أدين بالاغتصاب. ولدى خروجه من السجن، بعد عام، أُجبر على البدء من الصفر وعمل كقائد لفرقة “أنغام العود”. طلب زوهر في أحد العروض أن يغني واكتشف عازف الغيتارة في الفرقة، يهودا قيصر، موهبته النادرة وعرض عليه إصدار ألبوم خاصّ به. رغم وسائل التسجيل البسيطة، حقّق الألبوم نجاحًا كبيرًا وساهم في صعود أرجوف.
رغم أن هناك من سبقه: أنغام العود، داكلون وأريس سان، على سبيل المثال، ولكن كان هو أول من أدخل إلى كلّ بيت في إسرائيل الأنغام المتنوعة، أوتار العزف المستمرّة وأصداء الضرب التي خرجت من الدربكّة والتي استخدمها. قدّم عروضًا في مهرجانات رئيسية، دُعي إلى برامج ترفيهية وباع مئات الآلاف من أشرطة أغانيه. في نظرة إلى الخلف، تعتبر أعماله أكثر فخامة، ألبومه “عصريّ” اختير باعتباره الألبوم الأهمّ من الألبومات التي صدرت في إسرائيل في سنوات الثمانينات.
استمعوا إلى أداء أغنية “الزهرة التي في حديقتي”، بعد أن أعلنت أغنية العام. حتى اليوم تعتبر هذه الأغنية أكثر أغنية يعرف بها زوهر أرجوف:
لقد استمرّ في إصدار أغنية وراء الأخرى، وفي سنة 1983 قام بجولة عروض في الخارج. وخلال إقامته في الولايات المتحدة تعرّض للمرة الأولى لمخدّر الكراك وبدأ باستخدامه. في البداية لم يُعرف الأمر، ولم يكن يؤثّر عليه أن يقدّم عروضًا في خمسة أو ستّة نوادٍ كل مساء. بعد فترة بدأ بالتأخر في التسجيلات وتفويت الحفلات. أرسل للعلاج الاضطراري في مركز لإعادة التأهيل، وبعد الإفراج عنه ركّز في الموسيقى لفترة وجيزة وتدهور مرّة أخرى للمخدّرات. وهكذا مرّت السنوات ومع ذلك نجح زوهر في إصدار ألبومات أخرى، ولكن نبرة صوته تصدّعت وأصبح بالإمكان أن نسمع في صوته حزنًا صادقًا وحقيقيّا، وعجزًا حقيقيّا.
أصبح تدهور أرجوف أكثر شدّة، وفيما عدا تأخراته والإغماء في الحفلات، أصبح عنيفًا على نحو متزايد. تعارك مع شقيقه، سرق محفظة لطبيبة ودخل إلى السجن عدة مرات. وفي مقابلة قدّمها للبرنامج الأكثر مشاهدة في إسرائيل في تلك الأيام، زعم أنّه أصبح نظيفًا من المخدّرات، ولم يغيّر الاتجاه الذي انحدر إليه. في نهاية عام 1987 اعتقل مرّة أخرى، بعد أن اشتكت عليه زوجة مطرب آخر، وهي إيريس ليفي، بأنّه حاول اغتصابها. في ظلّ غياب المخدّرات ودون وجود هدف لحياته، عُثر على زوهر أرجوف مشنوقًا في زنزانته، ويلتف شرشف حول عنقه. هناك من يدّعي أنّه انتحر، وهناك من يدّعي أنّه أراد أن يجعل الحراس يعطونه جرعة أخرى من المخدرات البديلة. لن نعرف أبدًا الحقيقة.
اسم الأغنية التالية هو “بحر من الدموع”، وفي الواقع هذا هو بالضبط الشعور الذي يولّده لدى مستمعيه:
ابن زوهر، جيلي، الذي عاصر كطفل ومراهق حياة أبيه، نجاحه وانحداره، أصبح في نهاية المطاف مغنّيا أيضًا. هناك آية في الكتاب المقدّس تقول: “الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون”، ومعناها أنّ الإنسان بحاجة إلى تحمّل المسؤولية عن أفعاله، لأنّه ليس هو فقط من سيعاني بل أبناؤه أيضًا سيعانون من العواقب ويذهبون في نفس الاتجاه. في حالة جيلي أرجوف، فإن الآية تحقّقت بشكل حزين جدّا. فبعد سنوات معدودة من وفاة أبيه بدأ بتسجيل الأغاني والألبومات بنفسه وحقّق بعض النجاح في الحفلات. ولكن، مثل أبيه سقط مرّة تلوَ الأخرى في المخدّرات ووجد نفسه يدخل ويخرج من مراكز التأهيل. أُجريت قبل شهرين معه مقابلة، زعم أنّه “نظيف” وصرّح قائلا: “حتى آخر يوم في حياتي سأواصل مكافحة المخدّرات ولن أكون ضحيتها مجدّدًا”. نحاول أن نبقى متفائلين، ولكنها كلمات مألوفة ونحن نخشى من أن يعيد التاريخ نفسه…
جيلي أرجوف يغنّي “أبي” مع الموسيقيّين الذين رافقوا والده الراحل، في حفل لذكراه. ستذرف الدموع من أعينكم:
http://www.youtube.com/watch?v=w5epkxxB2bI&feature=youtu.be
لقد تخلّلت قصّة زوهر أرجوف جميع العناصر اللازمة لإنشاء فيلم رائج، ولذلك صدر فيلم يصف نجاحه وتدهوره عام 1993 وقد قدّم زوهر كما كان: إنسان بسيط، صاحب موهبة فريدة وكاريزما لزعيم دولة، برز على الساحة ولم يعرف كيفية التعامل معها، سقط ضحية المخدّرات وفشل في الإقلاع عنها، شعر بتعاسة كبيرة وبعدم الجدوى أمام الوجود. إنّ التناقض بين المطرب الناجح والجذاب، والذي حدث في التيار المركزي الإسرائيلي، وبين الإنسان الهشّ والخاضع كما كان هو؛ هذا التناقض لا يمكن تصديقه تقريبًا. بالنسبة لنا، فإنّ مسيرة زوهر أرجوف أنتجت لنا ما لا يُحصى من الإصدارات، المعقّدة والمثيرة. بالنسبة له، فقد شكّلت مسارًا لا مفرّ منه نحو الموت.
استمعوا إلى أغنية “أن تكون إنسانًا”، والتي صدرت قبل عام من وفاة أرجوف وتعبّر عن فقدان السيطرة والشعور بأنّه قد تمّ تحديد مصيره: