غيّرت العمليات الدراماتيكية في الشرق الأوسط المنطقة بالكامل من جوانب مختلفة. أنشأ الواقع الذي يتشكّل وينتصب ضدّ إسرائيل تحدّيات سياسية وأمنية جديدة، والتي تستلزم من صانعي القرار رسم الصورة من أجل فهمها بعمق.
إنّ الرسم الأولي والمناطقي نسبيّا يكشف عن الصورة التالية: في الجنوب، التهديد من قبل حماس في غزة لم يتغيّر، بينما يتشكّل في سيناء فضاء مُشبع بالنشاطات الجهادية، والذي حتى الآن يتمّ احتواؤه والتعامل معه من قبل الحكومة المصرية. في الضفة الغربية، هناك وضع راهن ليس إيجابيّا بالضرورة من وجهة نظر إسرائيل، ولكنه معروف جيّدًا. تقف الأردن أمام تهديد من جانب تنظيم “الدولة الإسلامية”، ولكن هذا يعتبر الآن سيناريو مستقبليّا ولم ينضج في الحاضر بعد. ما زال تهديد حزب الله في الشمال، والذي يسيطر على خطّ الحدود بين إسرائيل ولبنان، ومعه أيضًا قواعد اللعبة معروفة بشكل أو بآخر، رغم خطر الاشتعال المستمر للقتال والتطوّرات الأخيرة. يترك كلّ ذلك ساحة واحدة قواعد اللعبة فيها غير معروفة. وهي بالطبع مرتفعات الجولان، وبشكل أكثر تحديدًا: الجولان السوري (أو باسمه التاريخي والمعتاد بين سكانه “حوران”).
الحدود الإسرائيلية – السورية، هي الحدود الأكثر هدوءًا لإسرائيل منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار عام 1974
من الصعب المبالغة في أهمية الجولان باعتباره مكوّنا لفهم العلاقات بين إسرائيل وسوريا، وتاريخ كلّ بلد على حدة. ومن المثير للاهتمام أن نعرف بأنّه رغم الصراع بين الدولتين والحواجز المادية وعلى مستوى الوعي والتي تقسّم الطرفين، فإنّ هذه الحدود هي الحدود الأكثر هدوءًا لإسرائيل منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار عام 1974. وحتى اليوم، بالنظر إلى العاصفة الهائلة التي تعمّ المنطقة حاليّا في أعقاب الحرب الأهلية، ما زالت الحدود في مرتفعات الجولان هادئة نسبيّا وتحافظ في هذه الأثناء على توازن الردع الذي تمّ تحقيقه قبل أربعين عامًا. صحيح، كانت هناك أوقات عبرت فيها إشارات الحرب الحدود وظهرت داخل أراضي إسرائيل بدرجات مختلفة من القوة، ولكن حتى الآن ليس بشكل كبير وبعيد المدى. منذ اندلاع الحرب في سوريا تجري معارك في الجولان وتتحرّك موازين القوى كالبندول، حيث تنتقل الأراضي من وقت لآخر من طرف إلى الآخر. من الصعب أن نقدّر إلى أين سيتطوّر الصراع. ويظهر ممّا يمكن تحليله أنّ التوازن الحالي هو سيطرة النظام على معظم الجولان الشمالي، وسيطرة الثوار على غالبية أجزائه الجنوبية. وقد ظهر في الأسابيع الأخيرة توجّه لتعاظم قوة عناصر المعارضة السورية في الجولان (جبهة النصرة وجهات أخرى)، وذلك لدى سيطرتهم على مناطق كانت تمسك بها قوى النظام مؤخرًا. أبرزها “تل الحارة”، والذي يصل إلى ارتفاع كبير فوق الهضبة السورية ويشكّل رمزًا للسلطة بالإضافة إلى كونه نقطة استراتيجية رئيسية.
ظاهريًّا، يبدو أنه ليس هناك شيء خاص يفرّق بين الجولان السوري وسائر نقاط القتال في سوريا المتداعية. ولكن، في الحقيقة فهو متميّز وفريد من نوعه. من أجل ذلك يستثمر نظام بشار الأسد موارد كثيرة للصراع على السيطرة على الجولان، في الوقت الذي ينهزم به في أماكن لا تقلّ ضرورة حتى لو من ناحية استراتيجية، مثل حقول النفط في شرق البلاد، والتي سقطت في أيدي “الدولة الإسلامية”. لدى الأسد أسباب جيّدة ليقاتل من أجل الحفاظ على ما يملكه في الجولان. فهو يفهم أنّ سقوط هذه المنطقة بيد الثوار سيشكّل منعطفًا سلبيّا وربما حاسمًا بالنسبة إلى حكمه في سوريا، وذلك لمجموعتين من الأسباب الرئيسية، والتي تحتوي على عوامل فرعية إضافية.
لدى الأسد أسباب جيّدة ليقاتل من أجل الحفاظ على ما يملكه في الجولان. فهو يفهم أنّ سقوط هذه المنطقة بيد الثوار سيشكّل منعطفًا سلبيّا وربما حاسمًا بالنسبة إلى حكمه في سوريا
تتعلّق مجموعة الأسباب الأولى بالجانب الرمزي. بدايةً، لا يمكن تجاهل كون الجولان رمزًا لسلطة البعث ولاستمرار احتلال الجولان الغربي من قبل إسرائيل عام 1967. تم الاحتفاظ بالقنيطرة كمدينة أشباح مهجورة على الحدود وشاهدا حيّا على عدوان الاحتلال الإسرائيلي، حيث وُضع علم سوريّ ضخم إلى الشمال قليلا منها من أجل أن تتم رؤيته بشكل جيّد من الأراضي الإسرائيلية. في وضع تهتزّ فيه الأرض هناك اتجاه للتمسّك برموز السلطة الأكثر وضوحًا، ولذلك لا يتخلّى الأسد وعناصره بسهولة عن الجولان.
بالإضافة إلى ذلك، غير بعيد من هناك يقع المكان الذي بدأ فيه الاحتجاج الذي اكتسح الكثير من المواطنين في أنحاء البلاد. تلك المظاهرات التي اندلعت عام 2011 في درعا، والتي تقع في جنوب شرق الجولان السوري على الحدود مع الأردن، هي التي أشعلت لهيب الثورة ضدّ نظام البعث وأحدثت العاصفة التي لم تمرّ بعد.
هناك جانب آخر وهو الديموغرافيا في الجولان، وخصوصًا موضوع سكانه الدروز. هناك تمثيل للطائفة الدرزية في الجولان، وأبعد من ذلك تجاه الشرق تقع محافظة السويداء، والتي تُعرف بجبل الدروز، وتشكّل مركز حياة الطائفة في سوريا منذ مئات السنين. الدروز هم إحدى مجموعات الأقليّات في سوريا ويشكّلون أساسًا لشرعية نظام الأسد ودعمه. ورغم ظهور بعض التصدّعات في الولاء الدرزي للنظام خلال الحرب، إلا أنّ بشار لا يزال يقدّر قيمتهم ويخشى من فقدان تأييدهم الواسع.
مجموعة الأسباب الأخرى هي أسباب جيو- استراتيجية، نظرًا لموقع الجولان. قبل كلّ شيء فإنّ هذه المنطقة هي الممرّ الجنوبي الغربي لدمشق. وفي الوقت الذي يسيطر عليها الثوار، لن يكون هناك أي شيء تقريبًا يمنعهم من الاندفاع نحو أبواب العاصمة وزيادة الضغط على معاقل النظام. إلى جانب ذلك، فإنّ الجولان بنفس الدرجة تمامًا هو المنطقة التي تفصل بين دمشق وإسرائيل. طالما أنّ النظام يقيم على الحدود فإنّ باستطاعته إقامة نظام ردع وإنذار معقول – رغم فقدانه الكثير من قدراته – ضدّ إسرائيل ونواياها في العمل في الأراضي السورية كما يظهر. في الوقت الذي يسيطر الثوار على المنطقة، ستُفقد تلك السيطرة وستستطيع إسرائيل أن تعمل بحرية أكثر في المكان، أو أسوأ من ذلك في نظر الأسد: أن تتعاون مع الثوار ضدّ النظام وأن تخترق الإقليم السوري المتداعي. ولدى إسرائيل الآن بالفعل تفاهمات معيّنة مع أطراف تشاركها بنفس المصالح، وهو اتجاه قد يتّسع في أيّة فرصة مستقبلية.
بالإضافة إلى ذلك، هناك نقطة أخرى وهي الحدود السورية اللبنانية التي تبدأ من شمال الجولان. كلّما مرّ الوقت تصبح قوات النظام أكثر تعلّقًا بحلفها الوثيق مع حزب الله، تحت الرعاية الإيرانية. رغم أنّ حزب الله يركّز جهوده حتى هذه اللحظة في معارك على نقاط تقع إلى الشمال أكثر في الحدود السورية اللبنانية، ولكنه حاضر أيضًا في الجولان. لا يزال النظام اليوم يسيطر على جبل الشيخ السوري وسفوحه، وهذا يسمح له بالتالي في السيطرة على المحور الحرج الذي يربط كلا البلدين في تلك المنطقة الجبلية والحيوية. ولا يزال حزب الله يعمل في الجانب الغربي لتلك الحدود، وإثباتا لذلك فقد شهدنا مؤخرًا فقط محاولات لشنّ هجمات إرهابية ضدّ الجيش الإسرائيلي في مزارع شبعا (هار دوف)، والقبض على شخص سوري في بلدة حاصبيّا المجاورة للحدود حين كان في طريقه إلى تهريب الأسلحة بالإضافة إلى عمليات لكتائب المقاومة الشعبية التابعة لحزب الله في قرية شبعا.
بعد أن أصبح واضحًا للجميع ما هي مصلحة بشار في الحفاظ على الجولان السوري، يبقى علينا أن ننتظر لنرى ماذا سيُولد في المستقبل. ويبدو أنّ السيناريو الحالي، الذي تسحق فيه القوى بعضها البعض دون مخرج، لا يخدم أيّ طرف سوى إسرائيل التي تتمتّع بعدم وجود حسم في هذه الأثناء. إنّ سيناريو انتصار قوات النظام سيساهم في استقرار المنطقة، مع وجود جهة مقيّدة لديها ما تخسره وهدفها استعادة النظام. إنّ سيناريو كهذا سيعزّز العلاقة العميقة بين بشار وحزب الله، وقد يجعل الجولان السوري مرورًا بجبل الشيخ وجنوب لبنان منطقة لا تتجزّأ بشكل لم نشهده في الماضي. بالنسبة لإسرائيل فهذا واقع مثير للاهتمام بشكل خاصّ، لإعداد المواجهة المحتملة مع حزب الله إذا حدثت. من جهة أخرى، فإنّ انتصار الثوار واستيلائهم على الجولان سيقرّب من نهاية بشار حيث سيضعف ذلك بشكل كبير الارتباط الجنوبي في محور سيادته (حلب – اللاذقية – حماة – حمص – دمشق)، وسيهدّد قلب النظام. من الصعب أن نقدّر ماذا سيحدث في اليوم الذي يلي خطوة كهذه. على الأرجح ستتزايد الفوضى فقط وربما أيضًا ستصبح الأرضية مؤهلة لوصول “الدولة الإسلامية” إلى المنطقة، وهو اتجاه لم يكتسب بعد زخمًا في الجولان، وإذا ما حدث فإنّه سيغيّر قواعد اللعبة التي عرفناها.
الحدود في مرتفعات الجولان، هذه المنطقة، وإنْ لم تكن كبيرة، تملك بشكل كبير مفاتيح أحداث تقف أمام سوريا، إسرائيل، لبنان وكلّ الشرق الأوسط في السنوات القريبة
والخلاصة أنّ الجولان السوري هو أساس صلب في نظام بشار الأسد في سوريا، ورغم أنّ أنظار العالم الآن تتوجّه إلى ساحات أخرى في الحرب ضدّ “الدولة الإسلامية”، يبدو أنّ اليوم الذي سيجذب فيه الاهتمام الدولي والإقليمي ليس بعيدًا. إنّ هذه المنطقة، وإنْ لم تكن كبيرة، تملك بشكل كبير مفاتيح أحداث تقف أمام سوريا، إسرائيل، لبنان وكلّ الشرق الأوسط في السنوات القريبة.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع Near- East