تُعرَف جادة روتشيلد كواحدة من الجادات المركزية في مدينة تل أبيب يافا. مَن لم يكُن هُناك؟ ومن لم يمُرّ في المكان؟ الكثير من اللحظات التاريخية في الماضي والكثير من الأحداث السياسية في الحاضر. حوانيت فاخرة، أبراج، متاحف، مقاهٍ ومطاعم، منتشرة في الغالب على طول الجادة الأسطورية.
تلعب جادة روتشيلد، المدعوّة على اسم البارون إدموند جيمس دي روتشيلد، دورًا رئيسيًّا في التطور الحضاريّ للمدينة، وتقع فيها مواقع هامّة عديدة. الجادة هي القلب الحضاري لتل أبيب، جزء من القلب الاقتصادي لإسرائيل، إذ تشكّل جزءًا من الشوارع الرئيسية في أكبر وأهمّ مركز أعمال في الدولة. وبصفتها هذه، وبصفتها مركز الحيّ الذي سكنه في الماضي عديدون من قادة المدينة وإسرائيل عامّةً، فقد جرت فيها أحداث تاريخية شتّى، بينها الإعلان عن الدولة.
القليل من التاريخ
كانت جادة روتشيلد بين الشوارع الأربعة الأولى في تل أبيب. تم شقّ الطرق على كُثبان رمليّة تمّت تسويتها وجعلُها مستقيمة، وبُنيت على طولها البيوت الأولى في المدينة. كان الخطّ المستقيم الذي أصبح جادة واديًا صغيرًا تصعب تسويته بوسائل ذلك الزمان، تدفقّت إليه مياه كثيرة في الشتاء. لذلك، تقرر ملؤه بالرمال، وإبقاؤه منطقة مفتوحة لا تُبنى البيوت إلّا على أطرافها.
عام 1910، بدأ غرس الأشجار في هذه المنطقة المفتوحة، بهدف تحويل الشارع إلى الجادة الأولى في المدينة. رأى رجال تل أبيب الأوائل في الجادة بداية جادة فاخرة مثل بوليفارات باريس، وهكذا صوّروها للبارون الفرنسي روتشيلد، الذي دُعيت على اسمه الجادة.
والحدث المركزي الذي جرى قرب جادة روتشيلد كان مراسيم الإعلان عن استقلال إسرائيل في 14 أيار 1948 في بيت رئيس البلدية مئير ديزنغوف، الذي سكن في نفس الجادة.
هندسة معماريّة مدنيّة ومواقع تاريخيّة
جادة روتشيلد هي أحد الأماكن المدهشة في تل أبيب، وهي تجذب إليها الكثير من السيّاح، لعدّة أسباب بينها مشاهدة الهندسة المعمارية الفريدة في الشارع. على طول الجادة، ثمة نمطا بناء أساسيّان:
النمط الانتقائي الذي يميّز البيوت الأقدم في بداية الجادة، التي دُعيت أيضًا “بيوت الأحلام”. كان النمط الانتقائي منتشرًا في إسرائيل/ فلسطين في العشرينات، ولبّه هو دمج الهندسة المعمارية الغربية مع أنماط زخرفية من عدد كبير من مصادر الإلهام: اليونان – روما- عصر النهضة، هندسة معماريّة من الشرق الأقصى، وهندسة معماريّة شرق أوسطية قديمة.
يُميّز النمط الدولي، المعروف أيضًا “باوهاوس”، معظم البيوت في القسم الشمالي من المدينة. تأثر النمط الدولي في الهندسة المعمارية كثيرًا بمدرسة الحداثة في ألمانيا، وأساسه إلغاء الزخرفة في المباني وتحويلها إلى عمليّة جدًّا، بمعنى أنّ الحاجات الوظيفية للمبنى هي التي تحدّد شكله، لا العكس.
يدعو كثيرون الجادة “متحفًا مفتوحًا” لكونها مسارًا يمكن المشي عبره ونيل انطباع عن “المعروضات المعماريّة” المتنوّعة.
عدا الهندسة المعمارية المذهلة والمباني ذات الأهمية المعمارية البالغة، تحوي الجادة مجموعةً كبيرةً ومُنوَّعة من المواقع والمؤسسات التاريخية:
دارة الاستقلال: دارة مئير ديزنغوف، رئيس البلدية الأول لمدينة تل أبيب يافا، التي أُعلن فيها استقلال إسرائيل عام 1948.
كشك: في سنوات الأربعينات الباكرة، بدأ يعمل في المدينة عدد من الحوانيت الصغيرة لبيع السجائر، الصحف، المشروبات الخفيفة، الوجبات الخفيفة، والساندويشات. بُني الكشك الأول في تل أبيب في نفس الجادة. خلال سنوات، استُخدم بعد الظهر كملتقى لمسنّي المدينة وأطفالها، وكلّ مساء خرج منه أزواج عشّاق للتجوّل في أنحاء المدينة.
أُقيم الكُشك الأول في تل أبيب عام 1910. خلافًا للمقاهي الطنانة في يومنا، لم يطلب سكّان تل أبيب حينذاك أنواعًا شتّى من القهوة، ولم يبدُ المكان شبيهًا بفرع مقهى فاخر. كان هذا مبنًى صغيرًا على شكل مسدّس، قدّم في ذلك الحين خيرة الإنتاج المحلي: مشروبًا غازيًّا حامضًا – حلوًا، عصائر، ومُثلّجات حلوة. عام 1989، هُدم المكان، ولم يبقَ منه أيّ أثر. مؤخرا استُكملت إعادة بنائه، وافتُتح من جديد للجمهور.
متحف “ههغناه”: يقع المتحف في جادة روتشيلد 23، وقد استُخدم المبنى مقرًّا للتنظيم في سنوات نشاطه قبل قيام دولة إسرائيل. يُستعمَل المبنى اليوم كمتحف وأرشيف تاريخي لتنظيم “ههغناه”.
ناطحات سحاب: إلى جانب البيوت التاريخية ذات الطوابق القليلة في الجادة، أقيمت في السنوات الأخيرة ناطحات سحاب أيضًا تقع فيها مصالح تجارية كبرى، مصارف، مكاتب محامين، سفارات، وعدد لا يُحصى من المكاتب الحكومية.
مطاعم وأماكن استجمام: على طول الجادة، يمكن العثور على عدد لا يُحصى من المطاعم التي تقدّم تنوّعًا واسعًا من الطعام الدولي، الحانات، النوادي، وطبعًا حوانيت الموضة الفاخرة. بين مباني الحي، يمكن إيجاد عدد غير قليل من بيوت المشاهير، المؤثرين في الرأي العام، الفنانين، المثقفين، والمفكّرين الإسرائيليين.
الجادة كمنبر سياسيّ
استضافت الجادة أيضًا أحداثًا سياسيّة. والحدث الأبرز كان عام 2011 مع اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل. شكّلت جادة روتشيلد، التي مثّلت لسنوات الثراء الاجتماعي البارد والمنفصل لأثرياء إسرائيل، أرضًا خصبة للاحتجاجات الاجتماعية صيف 2011.
حدثَ الحدث المفاجئ والهام جدًّا حين قررت دفني ليف، من قوّاد الاحتجاجات الاجتماعيّة، العمل ضدّ غلاء المعيشة وضائقة السكن في إسرائيل. فبعد أن لاقت صعوبة في دفع أجرة شقة، قررت نصب خيمة في الجادة تحديدًا كإشارة على الانتفاض والتعبير عن الاشمئزاز من عجز الأزواج الشبان عن استئجار شقة، ناهيك عن شرائها. وامتدّ الأمر كالنار في الهشيم، إذ بدأ بالوصول إلى الجادة العديد من الشبّان، وامتلأ الشارع بمئات الخيام والشبان الذين احتجُّوا على عجز الحكومة الإسرائيلية عن حلّ الأزمة. وكانت ذروة الاحتجاج المسيرات على طول الشوارع الرئيسية في تل أبيب، إذ بلغ عدد المشاركين في المسيرات أكثر من 400 ألف (5% من عدد سكّان إسرائيل).
تستمرّ الجادة هذه الأيام في جذب الصادر والوارد إليها: السيّاح، المحليين، الشبان المعتادين على الاستجمام فيها، المحتجين على أنواعهم، الشبان، الشابات، الأولاد، وحتى كبار السن. هي باختصار جادة دون توقُّف…