غير أن متعة وفساد أردوغان، اللذين يتم الكشف عنهما في الوقت الراهن عن طريق التنصت، يضعان تحديًا صعبًا للغاية أمام كل تركي لا يزال حكم القانون قَيِّما في نظره.
تبدو تركيا هادئة على أرض الواقع. كل ما يريده الشعب المتعب والمرتبك هو أن يتركوه وشأنه، لم تحرز المظاهرات الكبيرة في شهر أيار 2013 تغييرًا فعليًا، وبشكل غير مفاجئ، منذ الكشف الإعلامي عن قضايا الفساد في الحكم، في السابع عشر من كانون الأول عام 2013، ازداد تشبث أردوغان بالحكم. لقد تمت إقالة الآلاف من رجال الشرطة، القضاة، والمدعين الذين عملوا على التحقيق في القضايا من مناصبهم، بحجة أنهم يعملون لصالح جهات دولية تريد فشل تركيا، وبهذه الطريقة نجح رئيس الحكومة أن يُخضع لسيادته السلطة الحاكمة أيضًا، وأن يدبّ الرعب في الشرطة.
تسخر الطبقات الراقية ووسائل الإعلام من الأخبار التي يختلقها أردوغان للمفتشين، غير أن الكثيرين من أبناء الشعب صدقوا قصة المؤامرة هذه وادعاءاته بأن الاتهامات كاذبة ومعدّة لإسقاط الحكومة. ابتكرت الصحافة التركية التي تخشى غضب القائد وسائل ليست مباشرة لتوجيه النقد – توجيه أصابع الاتهام إلى الجهات التي “تدعي” بأن الحكومة ومن يترأسها يرتشون، تضمين معلومات ناقدة في التقارير التي تتناول قضايا أخرى، وما يشبه لعبة الروليت الروسية التي تقتبس فيها كل وسيلة إعلام الآخرين أملا في أن تبعد عنها خوف الحكم.
إلا أنه عميقًا في داخل النظام، وفي العلاقات بين أردوغان وبين خصمه كولن، ما من أي هدنة. النزاع مستمر وحازم، وكما أشرنا هنا سابقا، إنه لا يزال في مطلعه. لقد افتُتحت هذا الأسبوع المرحلة الثانية من الهجوم على أردوغان. كشف أعداؤه عن مكالمات هاتفية ومستندات تدل على تلقيه فيلاتين كبيرتين فخمتين في إحدى المناطق الخلابة في تركيا في منطقة أورلا (بجانب إزمير). حسب المكالمات والمستندات، حصل أردوغان على الفيلات مقابل تسهيلات في المصادقات على البناء. لكون المنطقة تعتبر محمية طبيعية، كان البناء فيها ممنوعًا، إلا أن المبادر إلى المشروع، لطيف طوباش، المتهم هو الآخر برشوة ضخمة، حصل على مصادقة خاصة.
يطلب المقاول من أردوغان في بعض المكالمات تسريع الحصول على المصادقات وحث المسؤول الذي يرفض منح تلك الموافقة، وفي مكالمات أخرى يهتم أردوغان بوتيرة البناء وموعد الانتهاء. لقد تم بالمقابل عرض تسجيلات لمكالمات تقول فيها ابنة أردوغان، سُمية، للمقاول طوباش، أن اثنتين من الفيلات التي يتم بناؤها نالتا إعجابها وإعجاب والدتها، لكنهنّ يردن إجراء بعض التغييرات فيها.
ليست هذه الفضائح صدفة طبعًا. لقد أجري التنصت على الهواتف من قبل النيابة والشرطة، كجزء من التحقيق في الرشاوى، وتم تسريبها إلى الإعلام، على الأرجح، من قبل المدعين الذين أقيلوا من وظائفهم، حيث قاموا بحفظ التسجيلات بحوزتهم. على خلاف البلاغات السابقة التي تطرقت إلى رئيس الحكومة، لكن بصورة ليست مباشرة، والتي لم تكشف تقريبًا عن معلومات “قاسية”، تصحب التقرير الحالي تسجيلات بصوت أردوغان وابنته، ومستندات تبدو أصلية للوهلة الأولى. سيصعب على أردوغان وطاقمه ضحدها، إذا كانت صحيحة، إضافة إلى ذلك أن الفيلات قد بُنيت، ويمكن أن يكشف تحقيق سريع باسم من هي مسجلة وكيف قام بشرائها. ضمن جهود مكثفة للتغطية على الحدث، ألغت الحكومة إمكانية الدخول إلى مواقع الإنترنت التي كشفت عن التسجيلات ومضمونها، غير أنه في الإنترنت، كما هو معروف، لا يمكن إخفاء الواقع، وقد شقت الأمور طريقها في النهاية باتجاه الصحافة المؤسساتية.
سيحاول أردوغان التطرق إلى هذه الاتهامات على أنها حيلة أخرى أعدت لإلحاق الضرر بالحكومة، ولن نتفاجأ إذا رد مجددًا، كعادته، بقوة أكبر – بإغلاق الصحف، تنحية المحررين، إقالة ضباط شرطة وقضاة آخرين، وحتى إدخالهم السجن – من أجل إخفاء التهمة. إلا أن ثمن إغلاق الأفواه آخذ بالارتفاع.
هنالك من يقولون إن الحزب الحاكم، الذي حاز على أغلبية ساحقة في البرلمان، وليس بحاجة إلى تسويات سياسية، فاسد وتالف من أساسه. لقد نجح أردوغان خلال سنوات من التلاعب وفرض الإرهاب، بإخضاع الحزب لسيادته، وتنحية كل من عبّر فيه عن آراء مستقلة. لذلك، ليس من المحتمل أن يدين البرلمان أو الحزب أردوغان، أن يتهماه بالرشوة، ويطالبا بالإجراءات القانونية المشددة تجاهه. ربما كان الأمر على هذا النحو، غير أن الفضائح الأخيرة تضع تحديًا صعبًا إلى حد كبير أمام كل تركي لا يزال حكم القانون قَيِّما في نظره .
نشر المقال على موقع Can Think، والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.