أعترف أنني لم أفهم القصد حين سمعت للمرة الأولى مصطلح “Dark Net” (الشبكة المظلمة). فأنا أعرف الإنترنت منذ ما يزيد من عقد، أعرف البحث عن الموادّ التي أهتمّ بها، الحصول على آخر التحديثات من مواقع التواصل الاجتماعي، إجراء المشتريات من مواقع آمنة، والتحدّث إلى الأصدقاء والمعارف في إسرائيل والعالم كلّه.
وإذا بي في ذكرى الهولوكوست الأخيرة، قبل بضعة أيام، في ساعة متأخرة من الليل، أدرك أنني، مثل أي متصفح عادي، لا أعرف سوى رأس الجبل الجليديّ. فقد كشف تقرير بُثّ في القناة الثانية من التلفزيون الإسرائيلي النقابَ عن ظواهر قذِرة ومقلقة جدًّا للّاسامية تنتشر عبر الإنترنت في أرجاء العالم. لم يكن هذا جديدًا، لكنّ المذيع ومقدّم البرنامج نجح في إرباكي. فقد روى في التقرير عن عالَم إنترنت كامل لا ترصده محرّكات البحث العاديّة التي نعرفها جميعًا، مثل جوجل، ولا سلطات فرض القانون والحُكومات. إنه عالَم كامل وذو نطاق واسع، أكبر بكثير من عالَم “الشبكة النظيفة” (Clean Net)، الذي نعرفه نحن المستخدِمين العاديين. هو عالِم مظلم وكبير جدًّا. يُخبر الاختصاصيّون في الإنترنت أنّ محرّكات البحث العادية، مثل جوجل، تعرف أو تنجح في رصد بين 20 و28 من المئة من المحتويات التي نرفعها إلى شبكة الإنترنت. صُدمتُ لمعرفة هذه المعلومة. فنحن لا نعرف سوى أطراف أطراف الإنترنت، فيما يتواجد تحت السطح عالَم هائل من المعلومات المشفَّرة وغير المعروفة.
الأمر بسيط
يمكن تشبيه شبكة الإنترنت بجُزر متّصلة إحداها بالأخرى بحِبال. جوجل، على سبيل المثال، هو جزيرة مركزية تخرج منها حبال إلى مواقع عديدة أخرى، تحتوي هي بدورها على وصلات (حبال) إلى مواقع أخرى – قسمٌ منها متوفّر في جوجل، والقسم الآخَر غير متوفّر. إذا أردتم، بإمكانكم أن تطلبوا ألّا تظهر صفحتكم على فيس بوك لدى البحث في جوجل، وهكذا تقطعون الحبل بين جوجل وبين صفحتكم، لكن لا يزال بالإمكان الوصول إلى صفحتكم عبر الفيس بوك نفسه.
في الشبكة، كما في الواقع، مصطلَح “الأبواب المغلَقة” قائم، لكنه غير شائع. تُعرَف شبكة الإنترنت بأنها مشاع، أي إذا رفعتم شيئًا إلى الإنترنت، سواء إلى فيس بوك، منتدى ما، مدوّنتكم الخاصة، أو غير ذلك، فإنّ المعلومات أصبحت مِلكًا عامًّا، يمكن إيجادها عبر بحثٍ بسيط.
الافتراض الأساسيّ هو أنه عدا الرسائل الخاصّة بيننا وبين شخص آخر في مواقع مثل فيس بوك أو خدمات مثل “جوجل توك” و”مسنجر”، فإنّ كلّ شيء موصول بأشياء آخر، وكلّ شيء معروف، المعلومات ملك للعموم…
عوالِم مُوازِية
يبدو أننا – أنتم وأنا – مخطِئون. فليس كلّ شيء عامًّا، ولا يمكن الوصول إلى كلّ شيء. فللإنترنت طبقتان أخريان لا يُدرك معظمنا وجودهما، وهما أكبر من الشبكة المعروفة، وهما مخيفتان أكثر.
الجزء الهائل وغير المعروف من الإنترنت هو في الواقع المنطقة غير المُرسَّمة – مجموعة هائلة من المعلومات، مواقع وملفّات غير مسجَّلة في عنوان معيَّن (Domain)، متوفِّرة فقط لمَن يعرف الاتّصال بها. هكذا مثلًا، يمكن طباعة عنوان IP معيَّن والوصول إلى موقع ما، لا يمكن الوصول إليه بأية طريقة أخرى. فإذا لم تعرفوا عنوان الـ IP الخاصّ بالموقع، لن تعلموا أبدًا بوجود الموقع أو بفحواه. تحتوي الشبكة غير المعروفة على معلومات مثيرة للريبة أكثر قليلًا من الشبكة العاديّة، لكن ليس هناك أمر يحبس الأنفاس. فيمكن الوصول إلى هذه المعلومات من متصفّحات عاديّة جدًّا.
ولكن تحت هذه الشبكة غير المُرسَّمة، في مكانٍ لن نجده وإن بحثنا عنه، توجد الشبكة الأدنى: الشبكة المجهولة، الشبكة المظلمة (Darknet)، أو الويب العميق (Deep Web). تتطلب هذه الشبكة اتّصالًا محميًّا ومجهولًا عبر عددٍ من الخوادِم (servers)، المحميّة عبر عناصر مجهولة الهويّة.
القاعدة الأساسية للّعب هي السرية، ويصعب جدًّا رصد مَن تصفّح، من أين، ومَن يحمي الموقع ويقوم بصيانته. بين مواقع الشبكة المظلِمة ثمّة مواقع مشتريات تعرض مخدّرات وقَتَلة مأجورين، مرورًا بِالموادّ الإباحيّة الخاصّة بالأطفال، المرشِدين غير القانونيين لإعداد متفجّرات من موادّ موجودة في البيت، المعلومات السرية لهيئات حكومية وعسكرية، الاتّجار بالبشر، وصولًا إلى المنظمات الإرهابية الكاملة.
كيف يجري الاتّصال إذًا؟ عبرَ البصل
للاتصال بالشبكة العميقة، ثمة حاجة إلى وسيلة خاصّة باسمِ TOR، اختصار المصطلَح The Onion Routing أي “مسار البصل”. يمكن تنزيل TOR مجانًا عبر الشبكة العاديّة. بمجرد بحث قصير في جوجل، تجدون الوصلة إلى الموقع. يعرض البرنامج شاشة مراقبة تصلكم بالشبكة العميقة عبر بضعة خوادِم ثانويّة، وتقدّم لكم عنوان IP جديدًا ومزيفًا كثيرًا، بهدف تحويلكم من متصفّحين عاديّين هويتهم معروفة إلى متصفّحين مجهولين. بعد الاتّصال، يفتح TOR متصفّحًا، يتيح لكم استبدال الهويات الخفية بضغطة زر وبدء التجوّل في غياهب المواقع المُظلِمة.
لا تنتهي أسماء المواقع في “الشبكة المظلمة” بـ COM كما هو متعارف عليه، بل بخاتمة Onion، وهي شفّافة من حيث محرّكات البحث الاعتياديّة. هوية منشئي هذه المواقع مجهولة، ومكانها سريّ.
بعد ظهور المتصفِّح، تظهر أمامكم صفحة “أهلًا وسهلًا”، وفيها عنوان الـ IP المزيَّف الخاصّ بكم، ومحرّك بحث غريب اسمه Startpage. في ذلك المتصفِّح، يمكنكم فعل كلّ ما تفعلونه حتّى الآن – تصفُّح جوجل، وما شابه. مع ذلك، إذا عرفتم عمَّ تبحثون، يمكنكم بلوغ مواقع أخرى، مواقع لا يعرف المتصفِّح العاديّ ومحرّك البحث الاعتياديّ بوُجودها.
ويكيبيديا حفيّة، متجر عامّ، طريق الحرير، وصناديق بريد مستترة
إذا تعمّقتم في الأمر، فهذا جزء من المواقع التي قد تجدونها. الموقع الأكثر شهرة في الشبكة الخفيّة هو The Hidden Wiki، الموسوعة الخفيّة. موقع على شكل ويكيبيديا يحوي وصلات إلى مواقع مختلفة، مع معلومات مفصَّلة حول مواضيع متنوعة، جميعها دون رقابة، على سبيل المثال: معلومات سريّة لمؤسسات حكوميّة ومعلومات استخباريّة مسروقة، وصلات لأسواق حرّة اختصاصها إرسال المنتجات غير الشرعية: السلاح غير المرخَّص، العبيد، المخدّرات الثقيلة، أدلّة إنتاج القنابل والأسلحة الكيميائية والبيولوجية، مقاطع الفيديو والصُّور التي تعرض قطع رؤوس جنود من قِبل تنظيمات إرهابية، والمنتديات – الكثير جدًّا من المنتديات.
وهنا أيضًا، كما في “الشبكة النظيفة”، ثمّة موادّ إباحيّة. لكن في الشبكة المظلمة، الموادّ الإباحيّة أخطر بكثير. الأكثرية الساحقة للموادّ الإباحية في الشبكة الخفيّة غير شرعيّة، أي مواد إباحيّة خاصّة بأطفال مثيرة للاشمئزاز، موادّ إباحية تشمل الحيوانات، وكذلك موادّ إباحيّة لمشاهير نُشرت وأزيلت من الشبكة المعروفة.
إلى جانب الفنّ الإباحيّ، هناك أيضًا شبكة مبيعات. فالنظير المظلِم لموقع eBay هو موقع يُدعى Silkroad، أي طريق الحرير. موقع المشترَيات هذا، خلافًا لما قد تظنّون، مخصَّص لشراء كلّ ما محظور. سوق لمنتجات غير شرعية: سلاح، مخدّرات ثقيلة مثل الهيروين والكوكايين، مجلّات تُعنى بالاستغلال الجنسيّ للأطفال، أدلّة لإعداد السلاح، مستندات هويّة مزوّرة، وموادّ مسروقة من منظّمات وحُكومات.
كذلك، يعرض موقع يدعو نفسه “المتجر العامّ” تنوّعًا من المخدّرات بتسعيرة منظّمة، وقتَلة مأجورين يعرضون خدماتهم مع تسعيرة – 20 ألف يورو للشخص العاديّ، 40 ألفًا لرجل المافيا، 50 ألفًا للرسميّ الحكومي، و60 ألفًا للصحفيّ. وتشمل منظومة الردود المتّصلة بالموقع ردودًا إيجابية جدًّا حول قتَلة مأجورين، إذ يؤكّد مَن نالوا الخدمات في الماضي أنهم سيقومون بعملهم ولَن يهربوا بأموالكم.
تجري إدارة الرسائل الإلكترونية عبر منظومة بريد إلكتروني غير مراقَبة باسم Tormail، يستخدمها كثيرون بهدف نسج علاقات وإجراء محادثات ومراسَلات سرّيّة.
أروني المال
حتّى الآن، نجحنا في الإدراك أنّ ثمة عالمًا كهذا، قاسيًا ومحميًّا، يصعب بلوغ محتوياته الخطِرة. لكن لم نفهم كيف يجري تسويقه، فإذا أردتُم شراء سلاح مع كاتم صوت عليكم الالتزام بالدفع بطريقةٍ ما، أو إذا أردتم تنزيل موادّ سريّة حول أمرٍ ما، عليكم دفع رسوم. باختصار، كيف يُدار النظام الماليّ؟
العملة المحليّة المستخدَمة في الشبكة العميقة هي عملة خاصّة تُدعى Bitcoin. المال العاديّ (الشاقل، الريال، الدولار، واليورو) يُحفَظ في المصارف، وتتحكّم بقيمته الحكومات التي تُتاجِر به، بحيث يمكن خفض قيمة المال بزيادة إنتاجه، وبالتالي إنتاج تضخم. فضلًا عن سلطة الحكومات على المال، يمكن أيضًا تعقّبه عبر وَسْم الأوراق الماليّة، وطبعًا في الإنترنت عبر أرقام بطاقات الائتمان وأرقام الحسابات المصرفيّة. Bitcoin هي عُملة عبر الإنترنت موجودة منذ سنوات وناجحة جدًّا، وهي محميّة من قِبل قوّة حساب حواسيب، موضوع يُدعى Crypto-Currency.
يمكن لحواسيب خاصّة إعداد Bitcoin بنجاعة كبيرة، ويمكن لخدمات خاصّة تحويل شواقلكم، دولاراتكم، أو يورواتكم إلى هذا المال الإنترنتي. الفائدة الأكبر للشبكة المظلمة هي أنّ هذا الـ Bitcoin غير محفوظ في المصرف وغير مُوجَّه، وحسابكم سريّ كاملًا بحيث يمكنكم أن تدفعوا دون أن يدري أيّ إنسان بهوّيتكم.
لا معطيات لا سياسات
المشكلة ليست في ما نعرفه، بل في ما لا نعرفه، وفي حالة الشبكات المظلمة، المخفيّ أعظم. فالاختصاصيون في الشبكة يقدِّرون أنّ نحو نصف مليون شخص في أنحاء العالم يتصفّحون عبر TOR يوميًّا. لا يمكن أن نعرف كم منهم إسرائيليون، أردنيّون، سعوديّون، أمريكيون، مصريون، أو كم منهم يستغلّون الشبكة لأهدافٍ جنائيّة. الأكيد هو أنّ استخدام الشبكة المظلمة آخذ في التسارُع.
في تقرير للأمم المتحدة نُشر عام 2010، جاء أنّ “أحد التحديات الكبرى ذات الصلة بجرائم السايبر هو غياب المعلومات الموثوق بها حول نطاق المشكلة، كما حول الاعتقالات، تقديم الشكاوى، والإدانات. لا يوفّر القليل من الإحصاءات المتوفّرة معلوماتٍ موثوقًا بها لصانعي القرار حول مدى الجنايات المرتكَبة”. يؤدي غياب المعطيات إلى غياب السياسات. ففي كلّ ما يتعلّق بالإشراف على الجرائم في الشبكة المظلمة خاصّةً، وجرائم السايبر عامّ، قدرات السلطات القانونية في البِلاد والعالَم محدودة. وعدا التحديّات التقنيّة في تحديد مصدر الجريمة، من المهمّ التذكّر أنّ تصفح الشبكات المظلمة شرعيّ، شأنه شأن استخدام وسائل الدفع المجهولة الهويّة.
إنها ظاهرة عالميّة، تتخطّى الحُدود. فضلًا عن ذلك، يعبّر الاختصاصيون في شتّى أنحاء العالم عن قلقهم الشديد من “سياسة اللا حول ولا قوّة”. أدرك العالم منذ وقتٍ طويل أنّ التعاوُن الدولي حاسم من أجل مواجهة جرائم الإنترنت. فمنذ 13 عامًا، جرت بلورة “معاهدة بودابست”، الهادفة إلى محاربة جرائم كهذه، لا سيّما في حالات الخداع، التحرّش بالأطفال، والمسّ بالأمان. وقّعت 47 دولة في العالم على المعاهدة التي تهدف إلى خلق سياسة مشتركَة وإلى التعاوُن. لكنّ إسرائيل ليست من ضمنها. تدّعي مصادر رسمية أنّ عملية المصادقة تعرّضت للمماطلة في الكنيست لأسباب تشريعية، وتعتقد أنه سيجري التوقيع على المعاهَدة قريبًا.
من المهمّ أيضًا ذِكر حقيقة ليست بديهية، وهي أنّ لكلّ عملة وجهَين. فإلى جانب الموادّ المشكوك فيها وغير الشرعية التي تملأ الزوايا المظلمة من الشبكة الخفيّة، يمكن أيضًا إيجاد معلومات حقيقيّة لعناصر تفضّل عدم الكشف عن هويّتها. يمكن أن يكون هؤلاء مسرِّبين يكشفون مستَندات سريّة، بعضها هامّ وذو تأثير علينا جميعًا، أشخاصًا ذوي آراء لا تحظى بالشعبيّة في الشبكة النظيفة (مثلًا تنظيمات لإسقاط أنظمة مظلمة تعمل داخل دولها، ويمكن أن يؤدي كشف هويتها إلى السجن)، ومجرّد مدوّنات تفضّل إبقاء آرائها بعيدةً عن الأعيُن. كلّ هذه ظواهر إيجابية، وثمّة الكثير من الخطر في منح تفويض للمواقع العملاقة مثل جوجل بترسيم خريطة هذه الشبكة. تشكّل شبكة البصَل المجهولة الهوية المكان الذي وصل منه معظم وثائق WikiLeaks، التي رفعها أفراد المجموعة إلى الشبكة الاعتياديّة. إنه المكان الذي يمكن فيه كشف معلوماتٍ حسّاسة دون الخوف من الفضيحة، مناقشة مواضيع حسّاسة مع آخَرين، وحتّى مساعدة تنظيمات نثق بها. كذلك من المهمّ كشف وثائق سريّة للجيش الأمريكي حول أفعال غير أخلاقية تصل إلى حدود اللا شرعيّة في غوانتانامو، من أجل كشف الجور اللا إنسانيّ الذي يُنفَّذ على البشر.
تتيح الشبكة المجهولة لجميع هؤلاء أن يزدهروا. أمّا السؤال المطروح فهو: إلى أين؟ أإلى جريمة خطيرة ولا أخلاقية أم إلى كشف النقاب عن الفساد، إسقاط الأنظمة الظلامية، ودعم المنظمات والأشخاص الذين يريدون نشر السلام والأُخوّة؟