في السنوات الأخيرة، لم يعد التطرق التركي يقتصر على البيت والعالم. فقد أضيف إليه الحي أيضا. أردوغان ووزير خارجيته داوود أوغلو وضعا المقولة “صفر مشاكل مع الجيران” كلبنة أساس إضافية في السياسة التركية.
وإذ به، مع انتهاء صيف 2013، لا يوجد لدى تركيا سلام في البيت، ليس لها سلام في العالم، وأما النزاعات مع الجيران فهناك الكثير منها. هذا الأمر يضع مصاعب جمة أمام أردوغان. للمرة الأولى منذ سنوات توليه العشر – يبدو أنه لم يعد زعيما قادرًا على كل شيء في الحلبة السياسية التركية. تصريحات أردوغان في الأشهر الأخيرة تؤكد أنه قد أصبح من الصعب عليه أن يتماشى مع الوضع الجديد. في هذه الأثناء، يأمل في أن يعيد له هجوم أمريكي على سوريا انطلاقته.
الاحتجاج الاجتماعي الذي جرى هذا الصيف في تركيا أظهر إلى أي مدى هناك معارضة لأردوغان بين أوساط قطاعات مختلفة في المجتمَع التركي، والتي ليس بينها أي شيء مشترك. شهد الاحتجاج على تيارات عميقة، من شأنها أن تترك أثرها في المعارك الانتخابية الثلاث التي سيتم إجراؤها في تركيا في السنتين المقبلتين – الانتخابات المحلية في شهر آذار 2014، الانتخابات للرئاسة في صيف 2014 والانتخابات للبرلمان في صيف 2015 (إذا لم يتم تقديم موعدها).
صحيح أن استطلاعات الرأي العام التي أجريت في تركيا مؤخرًا، تظهر أنه لا يوجد حاليًا زعيم معارضة يمكنه أن يقوّض سلطة أردوغان، إلا أن هناك رغبة آخذة بالتزايد بين أوساط الجمهور التركي لوجود حزب جديد يجسد روح الاحتجاج الجماهيري. لقد كانت هناك أسبقية في تركيا لحزب جديد تم تأسيسه قُبيل الانتخابات وجرف كل الأصوات. أردوغان يعرف هذه الأسبقية جيدًا. يجري الحديث عن حزبه هو، الذي تأسس في العام 2001 وحظي بأكثرية ساحقة في البرلمان في انتخابات 2002.
لا توجه إشارات بعد لتكرار هذه الأسبقية، ولكن الجمهور بدأ بالتأكيد يرمق النظر إلى الجوانب ويبحث عن زعماء جدد ليكونوا بديلا. مثل هؤلاء الزعماء يمكن أن ينشأوا من الحلبة المحلية وأن ينتقلوا من هناك إلى الحلبة الوطنية، كما كان أردوغان في البداية رئيسا لبلدية إسطنبول.
المعارضة الجماهيرية لأردوغان لم تقوّض حكمه بعد، ولكنها تمس بقدرته على تطبيق الخطوة الأساسية بكل القوة، التي كان يأمل في تحقيقها في فترة توليه الحالية – تغيير الدستور وتغيير نظام الحكم إلى رئاسي. كان من شأن هذه الخطوة أن تمهد طريق أردوغان في العام 2014 إلى منصب رئيس تركيا. في الجو الجماهيري الذي يحتج على مركزية أردوغان الآخذة بالتزايد، أصبح من الصعب عليه الآن أن يدفع مثل هذه الخطوة قدما، وأن يركّز المزيد من الصلاحيات بين يديه.
إضافة إلى ذلك، يُستشف من استطلاع للرأي العام الذي أجري في شهر آب 2013، أن الجمهور بالذات معني بأن يواصل الرئيس الحالي عبد الله غول، في فترة ولاية إضافية. غول، الذي تصرف باعتدال أيام الاحتجاج الاجتماعي وحاول أن يلعب دور العامل الموحّد، حظي بشعبية كبيرة أكثر من شعبية أردوغان كمرشح للمنصب. إذا لم تكن هناك معارضة من الخارج – يبدو أن معارضة بدأت تنمو لأردوغان من الداخل، وحتى وإن كانت محدودة.
مصاعب أردوغان على الحلبة الداخلية هي جزء فقط من الحكاية. الحلبة الخارجية، التي كانت ملاذ أردوغان في السنوات السابقة، تضع أمامه اليوم تحديات غاية في التعقيد. أردوغان، الذي عمل على إرجاع تركيا إلى مكانة اللاعب الرائد على الحلبة الشرق أوسطية، موجودة اليوم في موقع مثير للمشاكل مقابل كل جارات تركيا تقريبا. حتى أمواج التعاطف العربية التي حملت أردوغان على أجنحتها، بعد المواجهة مع شمعون بيريس في مؤتمر دابوس وبعد انطلاق الربيع العربي، قد تبخرت.
المواجهة بين سوريا وتركيا وبين مصر وتركيا تكاد تصل إلى السماء، في السلطة الفلسطينية ينظرون بتخوف إلى العلاقات الحميمة بين تركيا وحماس، الرئيس العراقي اختار مؤخرًا دعوة رئيس المعارضة التركي، قيليجدار أوغلو، بالذات مؤخرا لزيارة إلى العراق وليس رئيس حكومتها، عملية السلام مع الحركة السرية الكردية تتقدم أبطأ مما كان متوقعًا، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل لم يتم إحرازه بعد. قال أحد الدبلوماسيين من المنطقة مؤخرا أنه لا توجد أي دولة في المنطقة يمكن لأردوغان أن يزورها.
إن تصريحات أردوغان بالنسبة للتطورات في المنطقة هي تصريحات لاذعة وهجومية. هكذا تصرف أيضا حيال الاحتجاج الاجتماعي في بلاده. أردوغان يبحث عن مذنبين، وفي بعض الأحيان يتمادى إلى أماكن مستغربة جدا بهدف العثور عليهم. فلنأخذ على سبيل المثال تصريحاته ضد جهات يهودية تقف خلف الاحتجاج في بلاده، وإسرائيل التي تقف خلف استبدال السلطة في مصر.
داخل كل هذا الفيض، ها هي نقطة ضوء تلوح لأردوغان على شكل المبادرة الأمريكية لإنجاز عمل عسكري في سوريا. منذ بداية الأزمة مع سوريا، أردوغان هو المتحدث الرسمي ضد نظام الأسد. ولكن على ضوء عدم استعداد تركيا المبرر للعمل لوحدها ضد نظام الأسد، لم يكن بإمكان أردوغان أن يفعل الكثير بهدف إسقاط حكم الأسد بشكل فعلي.
سياسة أردوغان السورية بدأت تبدو كفشل وكتعبير عن التراخي، وهو يتوقع خطوة أمريكية ضد سوريا ترجح الكفة مرة أخرى لصالحه، سواء على الحلبة الإقليمية أو على الحلبة السياسية الداخلية. يعبّر أردوغان عن دعم متحمس، استثنائي مقابل كافة ردود الفعل في المجتمع الدولي، لهجوم أمريكي، ويتوقع أن يكون مثل هذا الهجوم أكبر مما هو متوقع وأن يؤدي إلى موجة من الأحداث التي ستؤدي إلى سقوط الأسد.
في هذه الفترة بالذات، تتحول مجالس النواب إلى عامل يصعّب على الزعماء دفع الهجمات العسكرية قدمًا، أما في تركيا فإن التوجه معكوس. في العام 2003 رفض البرلمان التركي طلب الولايات المتحدة الهجوم على العراق من الأراضي التركية. في هذه المرة، وفي الوقت الذي يجتمع فيه الكونغرس الأمريكي للتشاور، أعلنت الزعامة التركية عن ضوء أخضر. أعلنت الزعامة التركية بأنها ستضع قاعدة سلاح الجو إنتشرليك الموجودة في أراضيها تحت تصرف هجوم تشنه قوات حلف شمالي الأطلسي ضد سوريا.
لقد ركزت حملة أردوغان الانتخابية في العام 2011 على المستقبل ووضعت رؤيا طموحة لتركيا للعام 2023 (الاحتفال بمئة عام على تأسيس الجمهورية). لا يمكن لحملة أردوغان الانتخابية التالية أن تتجاهل مشاكل الحاضر. أردوغان بحاجة الآن إلى إنجاز إقليمي يساعده في التغلب على المشاكل الداخلية والخارجية، والولايات المتحدة بالذات هي التي يمكنها أن توفر له هذه البضاعة. ستكون طلقات النار الأمريكية على دمشق بمثابة طلقة افتتاح حملة أردوغان القادمة.