تحديدًا في اليوم الذي طعن فيه فلسطيني جنديا في تل أبيب، قلب إسرائيل، يصرّ الجيش الإسرائيلي على الحفاظ على “التفاؤل الحذر”. في محادثة خاصة أجريناها مع ضابط في الشعبة المسؤولة عن الضفة الغربية، بمناسبة سخونة الأحداث في القدس والقلق المتزايد من اندلاع انتفاضة ثالثة في الضفة، يصرّ الضابط على أنّ الأمور تحت السيطرة، وأنّه حتى الآن لا يُتوقع تدفق الأحداث من القدس إلى الضفة.
الفلسطيني البسيط لا يريد الانتفاضة
وتضمّنت المحادثة التي جرت في ثكنة قرب القدس، مسحًا للأشهر الأخيرة، بدءًا من اختطاف المراهقين الثلاثة قرب الخليل، وحتى اليوم. بحسب كلامه، فرغم القلق الكبير بأنّ يؤدي اختطاف الجنود إلى اشتعال الأحداث، إلا أنّ الجيش الإسرائيلي قد نجح في السيطرة على الأوضاع وإعادتها إلى سابق عهدها.
خلال أقل من خمسة أشهر، الوضع في الضفة هادئ كما كان قبل الحادثة بل وأكثر. وتبدأ أسباب ذلك من نشر قوات على نطاق غير مسبوق في المنطقة، والتي لم تسمح بأعمال الشغب، ولكن الملاحظة الأكثر إثارة للاهتمام هي أنّ أحد عوامل التهدئة هم المواطنون الفلسطينيون، والذين بحسب كلامه يفهمون بأنّه من المفضّل لهم أن يكون الوضع هادئا من أن يكون هناك تصعيد.
وربّما يبدو أنّه بسبب وجود القوات الفلسطينية في المنطقة “تذكّر” المواطنون الفلسطينيون كيف كانت الحياة هنا قبل عشر سنوات، في أيام انتفاضة الأقصى، عندما وُضعت الحواجز في كلّ شارع وأصبحت الحياة في الضفة لا تُطاق. من المحتمل جدا أنّ الفلسطينيين قد فهموا بأنّ مصلحتهم الشخصية وهي الحياة بهدوء وكسب الرزق بكرامة؛ أفضل لهم الآن من مصلحتهم الوطنية، الأقل إلحاحا.
عباس يهدئ المنطقة
في فترة عملية “الجرف الصامد” أيضًا نجح الجيش الإسرائيلي في الحفاظ على الهدوء النسبي في الضفة، وفي هذه المرة أيضا وبفضل ظروف متداخلة. على الرغم من أنّ الوعي الوطني في الأراضي الفلسطينية قد تعزّز، ولكن بسبب شهر رمضان كان الصائمون متعبين أكثر، وجرت أحداث الشغب في المساء، بحيث أنّ مثيري الشغب لم يمسّوا بالمواطنين الإسرائيليين، وكذلك تم طمس الأضواء الإعلامية. فضلًا عن ذلك، وبحسب كلام الضابط، كانت هناك أوامر واضحة من القيادة الفلسطينية ومن عباس نفسه بعدم التصعيد في الضفة، وقد حرصت الأجهزة الأمنية على تنفيذ ذلك.
بشكل عامّ، يبدو أنّ التنسيق مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية ناجح ومثمر، أيضًا في هذه الأيام. حين سألت الضابط عن “التعاون” معهم، سعى إلى التوضيح: ليس الحديث عن التعاون بل عن التنسيق، المصطلحات مهمّة. “دعينا لا نخدع أنفسنا” كما يقول، “فليس الحديث عن حبّ… ولكن حين تكون هناك مصالح مشتركة، فإنّ التنسيق جيّد”. إنّ استخدام مصطلح “التعاوُن” رادع انطلاقا من الخوف من ضرب شرعيّتهم في الشارع الفلسطيني، ممّا قد يؤدي إلى انخفاض في الأداء أو التنسيق.
مثال جيّد لمساعدة الأجهزة الفلسطينية للجيش الإسرائيلي في تهدئة النفوس هو الحادثة التي كانت قبل أسبوع فقط في الخليل. في يوم الجمعة، بعد الصلاة، تجمّع نحو ألف متظاهر تابعون لحماس قبل عدّة شوارع من ميدان الشرطيّ في الخليل، عند مدخل المستوطنة اليهودية. أعلمت القوى الأمنية الجيش الإسرائيلي بما يحدث، ولكنّها أدارت الحدث بنفسها، وأمّنته حتى انتهائه. وكما هو معروف، فقد انتهى الحدث دون إصابات.
يبدو، إذا كان الأمر كذلك، أنّ عباس يحاول تجنّب المواجهات الزائدة واشتعال المنطقة، بخلاف الدعاوى المتكررة للقيادة الإسرائيلية. يبدو أنّه الآن يفكر في اليوم التالي، ويرغب أكثر في أن يُذكر باعتباره من جلب الاعتراف بفلسطين في الأمم المتحدة، بواسطة خطوات سياسية من جانب واحد، لا باعتباره شخصا اشتعلت المنطقة تحت قيادته دون تحقيق شيء.
حماس تهدّد الهدوء
لا تتلخّص المصالح المشتركة بين إسرائيل والأجهزة الفلسطينية بالحفاظ على منطقة هادئة. حيثما كانت حماس أقوى، فيبدو أنّه سيكون هناك المزيد من المصالح المشتركة. رغم أنّ عباس الآن في فترة تعاون مع حماس في الحكومة، فهو يدرك جيّدا أنّه ينبغي له الحذر منها.
قبل شهر واحد فحسب سُمح بنشر أنّ الجيش الإسرائيلي والشاباك قد كشفا عن محاولة انقلاب لحماس في الضفة، والتي تم تنسيقها مع حماس في الخارج وفي غزة. نُقلت جميع المعلومات عن تلك العلاقة التي تمّ الكشف عنها في الوقت الفعلي، بما في ذلك محاضر التحقيق وهوية المحقَّق معهم. أدرك عباس أنّ عليه الحذر من حماس أكثر من أيّ وقت مضى، وأن يستمرّ في مواصلة الإجراءات المشدّدة ضدّ الحركة، بالإضافة إلى الحفاظ على الهدوء في المنطقة.
وبالطبع فإنّ إسرائيل ترحّب بالهدوء النسبي المستمرّ، وتبذل كل ما تستطيع من أجل إبقاء الوضع مستقرّا قدر الإمكان. “تعمل إسرائيل جاهدة للتسهيل على الفلسطينيين”، يقول الضابط. على سبيل المثال، سُمح للفلسطينيين فوق سنّ الستّين مؤخرا بالدخول إلى إسرائيل دون تصاريح من الشاباك، فضلا عن فتح عدد من الطرق أمام حركة الفلسطينيين الحرّة.
وبسبب التوترات المتزايدة في الأسبوعين الماضيَين في القدس، هناك أيضًا محاولة لتجنّب المسّ بالفلسطينيين قدر الإمكان، وجعل سياسة إطلاق النار مرنةً قدر الإمكان. إذا كان المنظور القانوني يسمح بإطلاق النار تجاه كلّ من يرمي بالزجاجات الحارقة ويلقي الحجارة على الشوارع، فيبدو أنّهم سيقومون بكل ما يستطيعون اليوم من أجل اعتقاله، وإن لم يكن كذلك، فالتسبب له بجروح فقط. إذا حدث في الضفة على سبيل المثال مثلما حدث في كفر كنا، فمن الممكن أن يكون اشتعال الأوضاع أكثر خطورة بكثير.
الأمور تحت السيطرة
ولكن رغم أجواء التوتر الكبير، عاد الضابط وأصرّ على أنّ الأمور تحت السيطرة، وبأنّه لا يُتوقع تدفق الاضطرابات من منطقة القدس إلى الضفة الغربية. عندما أتساءل عن معنى تفاؤله، يجيبني بأنّه رغم أعمال الشغب التي نراها كل يوم في الأخبار، والشعور العام بوجود انتفاضة تتشكّل، فإنّ الأرقام تشير إلى انخفاض. على سبيل المثال، عدد حالات إلقاء الحجارة في الضفة، بالإضافة إلى إلقاء الزجاجات الحارقة اليوم، مماثل بالمعدّل للوضع قبل اختطاف المراهقين، وهي آخذة بالانخفاض بشكل واضح. “أيضًا في اليوم الذي حل بعد قتل المراهق محمد أبو خضير كانت هناك توترات هائلة وأجواء تشير إلى أنه ستشكّل انتفاضة، وفي النهاية هدأت الأمور”.
التأثير الوحيد لسخونة الأوضاع محسوس في المناطق التي حول القدس، مثل مظاهرات حاجز قلنديا أو في الأحياء المحيطة بالمدينة، ولكن هناك أيضا، الوضع مستقرّ وتحت السيطرة.
إنّ تقدير الوضع العام هذا نابع من المزج بين جميع العوامل ذات الصلة: القيادة الفلسطينية، التي حتى الآن على الأقل تتعاون وتعمل على تهدئة النفوس، تقديرات الإرهاب الشعبي: الذي لم يخترق حتى الآن حدود القدس، المستوطنات: التي تسعى مؤخرا إلى اعتماد خطّ معتدل وغير عنيف، والتملص من الشباب الذين يتجاوزون القانون، بشكل أساسيّ كي لا يُنظر إليهم كمتطرّفين في أعين الجمهور الإسرائيلي. ونضيف إلى جميع ذلك أيضًا العمليات المستمرّة للجيش الإسرائيلي في المنطقة، والردع الذي حقّقه خلال عملية “إعادة الإخوة” بعد اختطاف المراهقين، فحينها تم الشعور بحضور كبير للقوات وتم تنفيذ عشرات الاعتقالات لنشطاء حماس.
إنّ الإرهاب المنظّم، الذي تقوده الآن حماس، ينجح في الوقت الراهن في الحفاظ على ضبط النفس. وبالمناسبة، إنْ سألتِني، فليست هناك دلائل على أنّ الجهاد العالمي أو عناصر قد تكون مرتبطة بداعش مستقرّة في الضفة، ولكن مع ذلك فإنّ الشاباك يبقى في حالة تأهّب، بل ونفّذ في الماضي عدّة اعتقالات.
على ضوء جميع ذلك، فإنّ تقدير الأوضاع كما هي حتى اليوم صباحًا، هو “تفاؤل حذر”. لأنّه حتى حين يكون الوضع تحت السيطرة، كما يقول، فنحن نعيش في مكان لا يمكن فيه أن نعرف ماذا سيحدث بعد يومين. بعد ساعتين من ذلك، حين كنت قد عدت إلى تل أبيب، جاءت الأخبار عن عملية الطعن في جنوب المدينة. نأمل ألا تكون هذه هي العملية التي تشعل الانتفاضة الثالثة.